السقوط في النثر

02 نوفمبر 2016
سندس عبد الهادي/ العراق
+ الخط -

كلما رأيتُ هاوية، مددتُ فوقها جسراً من الكلمات.
لا أعرف سوى هذا فائدةً للكلمات؛ أن تكون جسراً أتعلّق به كقميص ينتظر أن يجفّ على سطح بناية آيلة للسقوط، ثم أرفس بقدميّ الريح التي تمر تحتي وأنا أسمع صفيرها من دون أن أراها.

بماذا يمكن أن نعبِّئ هذا الفراغ؟ باستعارات فارغة، يجيبني.

البهلوان وحده يعرف كيف يمكن هزيمة الضجر.
ولماذا نكره الفراغ إلى هذه الدرجة؟ تلك معتقدات قديمة ما زلنا نتشبّثُ بها.
ما الضير بمساحة لا تحتوي على شيء؟ لا شيءَ إطلاقاً.

حسناً... كان رجلٌ يجمع الحروف التي سقطتْ سهواً من حقائب المسافرين. يلملمها ليصنع منها تلّةً يدفن فيها رأسه. وبعد أن يشارف على الاختناق، يرفع رأسه ثانية، ويحكي لنا عن عذاباته الرهيبة في ركام اللغة.
الحيلة واضحة. المسرحية نفسها منذ آلاف السنين.

وأنا معلّق بجسر الكلمات فوق الهاوية، كان المجاز يسيل فوق جسدي كزيت دبق.
كنت أصرخ، وأحرك ساقيّ في الهواء.
قلتُ للجمهور: لقد تعبتُ من اللعب. الاستعارة إبرة ثخينة تغزّها ممرضة مستعجلة في أصغر وريد في يدي.
ما أريد قوله أني كنتُ أتأرجح من حبل الكلمات، أطوّح بقدمي وألوي عنقي يميناً ويساراً، أمدّ لساني، والجمهور يصفّق. لا أحد يمكنه أن ينكر أن مشهداً كهذا ممتعٌ ومثير.
لكنني - ربما نسيتم - معلقٌ فوق هاوية.
لولا أن في قاع الهاوية نهر عميق مائل إلى الحمرة.
قطرات المجاز التي كانت ترشح من لساني، تسقط، وتضيع في النهر كرضيع تُرك لمصيره.
الاستعارة مهما كبرتْ، ستبقى طفلاً يمصّ إصبعه الصغير. الاستعارة تبكي إذا لم يُعرها أحّدٌ انتباهاً.

أُلقي نظرة إلى الأسفل. ظلّي المتأرجح فوق صفحة النهر يحدّق في وجهي. أُفلتُ يديَّ لأقع في النثر مستلقياً على ظهري. في الحال، أغمضُ عينيّ، وأتركُ مجرى النثر يجرفني.
في النثر، حيث لا حبال ولا هواء، تجتاح أنفي رائحة الأرض. أجدّف بيديّ، فتصطدم أصابعي بعظام طافية يميناً وشمالاً.
في النثر، ألمس كل شيء وأراه.
في النثر، لستُ مضطراً أن أرسم فوق جسدي جروحاً بأقلام التلوين.
في النثر، ثمّة جمهور في مكان ما خلف الضفاف، بين الأغصان وخلف الأحراج. يراني ولا أراه. هذا جميل. أن يراني ولا أراه.
في النثر، أمدّ يديّ إلى القاع، أتلمّس رمله الناعم، وأرسم بإصبعي أسماء الذين خسرتهم. أرسم وجوه المدن التي تركتُ فيها أهلي وأصدقائي.
في النثر، أسبح مع العالم، ولا أقع. يمتدّ السطر من دون ادّعاء. تجرفني المياه برقّة. يسألني البعض عن ثيابي القديمة. أخبرهم بحقيقة ما حصل.
أخبرهم، كيف كنتُ معلّقاً بجسر الكلمات، إلى أن رأيتُ بلاداً تسقط أمامي، فقرّرتُ أن أسقط معها في النثر.


* شاعر سوري

المساهمون