11 نوفمبر 2024
الساعات الصفر لحفتر
أعلن الجنرال الليبي المتقاعد، خليفة حفتر، يوم 12 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، أن الساعة الصفر قد حانت لدخول طرابلس، وبسط الشرعية عليها. وقد اختار الليل كعادته لبدء العملية الحاسمة. سارعت بعض وسائل الإعلام لنقل الخبر، ووعد عديد منها بالعودة إلى هذا الحدث لتغطيته، ونقل عمليات التقدّم الوشيكة لـ "تحرير طرابلس". ولكن لم يعد كثيرون منا يتذكّرون عدد المرّات التي أعلن فيها حفتر اعتزامه اقتحام العاصمة، فيما المدينة أمامه وأبوابها مفتوحة منذ مدة إذا كان يقدر فعلا في ذلك. والرجل حريصٌ على هذا إلى حد الهوس، غير أن طرابلس استعصت عليه، بل شكلت له خيبة عارمة، وربما خسر ثقة حلفائه من الداخل والخارج بسبب هذا الإخفاق المهين الذي يشعر به. وقد راهن كثيرون عليه ليدخل طرابلس، ويقوّض حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج التي ما زالت، على الرغم من إخفاقاتها هي أيضا عنوان "الشرعية" في ليبيا. ومع ذلك، علينا أن نعترف بأن هذا الأمر لا يعكس كامل الحقيقة، فالدول التي منحت الشرعية لهذه الحكومة هي ذاتها التي تقيم علاقاتٍ موازية مع حفتر علنا، وكلنا يذكر كيف تواصل بعضهم معه، وأوفد إليه بعثاتٍ التقته دعما له.
هي لعبة القوى العظمى التي ليس للمبادئ فيها قول الفصل، بل المصالح والرهانات هي المحدّدة عادة. لا شيء يؤكد أن خليفة حفتر سيكفّ عن محاولاته تلك، ولكن الأمر ليس بالشكل الذي
يوحي به، وكأن دخوله طرابلس مسألة قرار شخصي، يستدعي مجرد التنفيذ. ثمّة معادلات محلية ودولية معقدة تجعل أمنيات حفتر اختبارا عسيرا للجميع، خصوصا وأن هناك من هو مهدّد بالانقراض، لو تمكنت قوات هذا الرجل من الدخول إلى المدينة، وسيطرت عليها بشكل تام ونهائي.
التوقيت وحده كفيلٌ بكشف الخفايا التي حركت حفتر الآن، حتى يحاول مرة أخرى السيطرة على طرابلس، وطرد حكومة السراج وداعميها. يبدو أن التعزيزات التي وصلت إليه في الأسابيع الأخيرة، وتحديدا المرتزقة الذين قدموا من دول مجاورة، فضلا عن روسيا، هي التي أحرجته، فهولاء يحتاجون معركة "حقيقية" بحجم سمعتهم وكفاءتهم. ولذلك يبدو أنهم ضغطوا عليه "لتشغيلهم"، حتى يتدرّبوا على الميدان، في انتظار بسط السيطرة لاحقا. وهذه إحدى شعائر القتال التي لا يقتحم فيها المرتزقة دفعة واحدة الميدان، خصوصا وأن الوضع الإقليمي مواتٍ ظاهريا. وقد تزامنت بيانات الصفر المعلنة عن اقتحام طرابلس، أول الأمر، مع بدء الحراك الجزائري وانشغال الجيش بالتعاطي مع عبد العزيز بوتفليقة، فكأن حفتر استشعر أن الجو خلا له، حتى يقوم بجولته السياحية وسط طرابلس، ولن تغفر الجزائر له هذا، وها هو يختار ليلة الانتخابات فيها مجدّدا ليعيد الكرّة.
لا يتوقف الأمر عند رغبات حفتر، خصوصا وقد أجّجتها سياقاتٌ إقليميةٌ تسارعت وتيرتها في
الأيام القليلة الفارطة، في علاقة بتقارير كشفتها الأمم المتحدة تؤكد استقدام مقاتلين أجانب من السودان وروسيا تحديدا، فضلا عن تدخلات إقليمية أخرى، اتخذت شكل تمويلات وتسليح لهذه الجهة أو الأخرى، غير أن الاتفاق الذي أمضته حكومة الوفاق في طرابلس مع تركيا بشأن ترسيم الحدود البحرية، من أهم الدوافع التي حرّضت حفتر على أن يحاول مجدّدا اقتحام طرابلس. إنه يستبق التدخلات التركية المحتملة لدعم حكومة السراج، وقد صرح مسؤولون أتراك، عقب إمضاء الاتفاقية، بأن بلدهم على استعداد لإسناد الحكومة الشرعية في ليبيا عسكريا لو طلبت منها ذلك. يحرص حفتر على أن يكون التدخل التركي في "معركةٍ" تجري عمليا، حتى يستطيع أن يسوق لحلفائه ضرورة إسناده المباشر، بما يضع حدّا لعدوان تركي سافر، وذلك ما يعقّد المسألة، ويدولنها أكثر، على أمل أن يتم الاعتراف به رقما وحيدا في المعادلة الليبية، وقد تصاعد خلاف دول أوروبية مع حكومة طرابلس، وصلت إلى حد طرد اليونان السفير الليبي.
لا يأخد ليبيون كثيرون وغيرهم مأخد الجد تهديدات حفتر. ولكن ثمّة مؤشرات عديدة على أن تأزيم الوضع الإنساني، وحتى العسكري، أمر ممكن، خصوصا إذا ما أغدق عليه حلفاؤه بالخبرات المقاتلة التي تستطيع أن ترجّح كفته في طرابلس، وإن لن يستقر له الأمر فيها، لعوامل تعود إلى طبيعة الانقسامات القبلية والمناطقية في ليبيا التي ظلت متحكّمة في تاريخها الحديث.
لكل تلك الاعتبارات، لا تصدر الحرب التي تخاض في ليبيا عن مشاريع سياسية وطنية محضة، مهما بلغت درجة التقابل بينها، بل أيضا بين بُنى وأصول اجتماعية وتمثلات سياسية للنخب الليبية. وبقطع النظر عن القوى الإقليمية الداعمة لهذا الشق أو ذاك، فإن حسم المعركة سياسيا على افتراض وقوعه لن يحل المشكل. ولن يكون استنساخ السيناريو السوري، أو حتى اليمني، ممكنا في ليبيا، للأسباب أعلاه. والأرجح أن تظل البلاد في حالةٍ رمادية هجينة بين اللاحرب واللاسلم، والتي تبيح كل أشكال التفاوض والمقايضة بين جميع اللاعبين، ومهما كانت درجة مهارتهم. وليست المليشيات التي تتناحر في ليبيا مجرد نيران مقاتلة من أجل النفط والجاه، بل من أجل الشرف أحيانا، وهو ما يجعل الغلبة النهائية شبه مستحيلة. حين يختار حفتر الساعة الصفر للهجوم على طرابلس للمرة الألف، فإنه مدفوعٌ إلى ذلك تحت ضغط وهم جنون العظمة، ورغبة حلفائه وهم يعلمون أن النتيجة تكاد تكون مستحيلة مسبقا.
التوقيت وحده كفيلٌ بكشف الخفايا التي حركت حفتر الآن، حتى يحاول مرة أخرى السيطرة على طرابلس، وطرد حكومة السراج وداعميها. يبدو أن التعزيزات التي وصلت إليه في الأسابيع الأخيرة، وتحديدا المرتزقة الذين قدموا من دول مجاورة، فضلا عن روسيا، هي التي أحرجته، فهولاء يحتاجون معركة "حقيقية" بحجم سمعتهم وكفاءتهم. ولذلك يبدو أنهم ضغطوا عليه "لتشغيلهم"، حتى يتدرّبوا على الميدان، في انتظار بسط السيطرة لاحقا. وهذه إحدى شعائر القتال التي لا يقتحم فيها المرتزقة دفعة واحدة الميدان، خصوصا وأن الوضع الإقليمي مواتٍ ظاهريا. وقد تزامنت بيانات الصفر المعلنة عن اقتحام طرابلس، أول الأمر، مع بدء الحراك الجزائري وانشغال الجيش بالتعاطي مع عبد العزيز بوتفليقة، فكأن حفتر استشعر أن الجو خلا له، حتى يقوم بجولته السياحية وسط طرابلس، ولن تغفر الجزائر له هذا، وها هو يختار ليلة الانتخابات فيها مجدّدا ليعيد الكرّة.
لا يتوقف الأمر عند رغبات حفتر، خصوصا وقد أجّجتها سياقاتٌ إقليميةٌ تسارعت وتيرتها في
لا يأخد ليبيون كثيرون وغيرهم مأخد الجد تهديدات حفتر. ولكن ثمّة مؤشرات عديدة على أن تأزيم الوضع الإنساني، وحتى العسكري، أمر ممكن، خصوصا إذا ما أغدق عليه حلفاؤه بالخبرات المقاتلة التي تستطيع أن ترجّح كفته في طرابلس، وإن لن يستقر له الأمر فيها، لعوامل تعود إلى طبيعة الانقسامات القبلية والمناطقية في ليبيا التي ظلت متحكّمة في تاريخها الحديث.
لكل تلك الاعتبارات، لا تصدر الحرب التي تخاض في ليبيا عن مشاريع سياسية وطنية محضة، مهما بلغت درجة التقابل بينها، بل أيضا بين بُنى وأصول اجتماعية وتمثلات سياسية للنخب الليبية. وبقطع النظر عن القوى الإقليمية الداعمة لهذا الشق أو ذاك، فإن حسم المعركة سياسيا على افتراض وقوعه لن يحل المشكل. ولن يكون استنساخ السيناريو السوري، أو حتى اليمني، ممكنا في ليبيا، للأسباب أعلاه. والأرجح أن تظل البلاد في حالةٍ رمادية هجينة بين اللاحرب واللاسلم، والتي تبيح كل أشكال التفاوض والمقايضة بين جميع اللاعبين، ومهما كانت درجة مهارتهم. وليست المليشيات التي تتناحر في ليبيا مجرد نيران مقاتلة من أجل النفط والجاه، بل من أجل الشرف أحيانا، وهو ما يجعل الغلبة النهائية شبه مستحيلة. حين يختار حفتر الساعة الصفر للهجوم على طرابلس للمرة الألف، فإنه مدفوعٌ إلى ذلك تحت ضغط وهم جنون العظمة، ورغبة حلفائه وهم يعلمون أن النتيجة تكاد تكون مستحيلة مسبقا.