19 أكتوبر 2019
الساحل... الحلقة المفرغة لعسكرة محاربة الإرهاب
تؤكد الهجمات الإرهابية، المتزامنة الأسبوع الماضي، على مقر قيادة أركان الجيش البوركيني والسفارة الفرنسية والمعهد الفرنسي في واغادوغو، معضلة الإرهاب العابر للأوطان في منطقة الساحل، وعلى الحلقة المفرغة لعسكرة محاربته. كما أكدت التحولات المتواصلة داخل "البيت" الإرهابي الساحلي، وتطورات تحالفاته، فقد تبنّى هذه الهجمات تحالفٌ جديد، يسمى جماعة دعم الإسلام والمسلمين، يضم على ما يبدو عدة فصائل (كان) بعض أعضائها ضمن فصائل أزواد المالية، وبعضها (كان) منضويا تحت لواء "القاعدة" في الغرب الإسلامي، وبعضها الآخر تحت لواء "داعش". لكن إنشاء هذه الفصائل تنظيما جديدا لا يعني بالضرورة انفصالها عن التنظيمين الأساسيين، القاعدة في المغرب الإسلامي و"داعش"، بل قد يكون دلالة على خلافات بين مختلف الجماعات المبايعة للتنظيمين الرئيسيين حول بعض الخيارات. وتفيد أخبار بأن زعيم جماعة أنصار الدين الأزوادية المالية، إياد أغ غالي، هو من يترأس التنظيم الجديد، وهذا ما يوحي بوجود نيةٍ لإنشاء تنظيم ثالث، لكن تتزعمه هذه المرة قيادة محلية (طارقية)، بدل الاعتماد على قيادات قادمة من دول الجوار.
ما يهمنا هنا ليس تحولات الجماعات الجهادية، من حيث التنظيم والخيارات والولاءات، وإنما معضلة عسكرة محاربة الإرهاب. فمجرد العسكرة يعني أن الدول المعنية فشلت في معالجة
الظاهرة سياسياً، وأن مقاربتها الوقائية، إن وجدت فعلاً، لم تؤت أكلها، فاللجوء إلى القوة العسكرية هو بحد ذاته دلالة على رسوب سياسي، في مواجهة ظاهرة معقدة، تمت عسكرتها في مراحل متأخرة من نشأتها. كما أنها دلالة أيضاً على رسوب سياسي محلي وإقليمي ودولي في عزل المشكلات السياسية الشرعية عن ظاهرة الإرهاب. إذ لا جدال في أن أزمة الأزواد شكلت، ولا زالت تشكل، أرضاً خصبة للجماعات الإرهابية المحلية والعابرة للأوطان. فإياد غالي تعاملت معه الجزائر قبل التدخل الفرنسي في مالي، باعتباره ممثلاً لحركة سياسية ضمن فسيفساء الحركات الأزوادية ذات المطالب السياسية الشرعية، لكنه سرعان ما ركب قطار الإمارة الإرهابية التي أرادت الجماعات الجهادية التي استولت على شمالي مالي، وزحفت على جنوبه، إقامتها في البلاد. هكذا، فلا الحكومة المالية، ولا القوى الإقليمية (الجزائر خصوصاً) والدولية (فرنسياً تحديداً) نجحت في إيجاد برزخٍ يفصل عالم المدنس الأرضي الأزوادي عن عالم المقدس الغيبي الجهادي (المحلي والعابر للأوطان).
بما أن الدول تقوم على احتكار استخدام العنف المشروع، حسب مقولة عالم الاجتماع الألماني، ماكس فيبر، فمجرد استخدام الجماعات الإرهابية السلاح بشكل واسع، وتحكمها في أجزاء شاسعة من التراب المالي أصبح بحد ذاته تهديداً لها، وإن كانت مدركات التهديد تختلف من بلد إلى آخر، حسب درجة الإنكشاف ومستوى القدرات. هكذا قابلت الدول العسكرة الإرهابية بعسكرة محاربة الإرهاب الذي أصبح التهديد الأساسي لدول المنطقة، في وقت تراجعت فيها تماماً الصراعات المسلحة بين الدول. وتتقاسم الجماعات الإرهابية والدول المنطق الإستراتيجي نفسه، أي صفرية الصراع، بمعنى هزيمة طرفٍ هي نصر للطرف الآخر، ولا توجد أي إمكانية لحل وسط، لأن الصراع وجودي. بيد أن هذه المعادلة الصفرية صحيحة جزئياً فقط. إذا كان من غير المعقول بالنسبة للدول أن تنهزم أمام جماعاتٍ إرهابية، لما لذلك من مخاطر وتهديدات بينة، فضلاً عن إمكانية اختفاء دول لصالح إمارات إرهابية، تمارس التقتيل العلني والواسع الإنتشار باسم خلافة الله في الأرض، لتعيث فيها فساداً، فإن للجماعات الإرهابية حاملاً اجتماعياً متجذّراً في مجتمعات دول المنطقة، وناقماً على حكوماته، فلولا المشكلات السياسية العالقة في دول المنطقة، ووجود حامل اجتماعي، لما صمدت الجماعات الإرهابية، لا سيما العابرة للأوطان، أمام الضغط المستمر الذي تمارسه عليها مختلف القوات المحلية والإقليمية والدولية.
عسكرة محاربة الإرهاب، من دون النظر في مسبباته ومعالجتها في منبتها، لن تجدي نفعاً. صحيح أنها تسمح بتوجيه ضرباتٍ موجعة للجماعات الإرهابية، إلا أن الأخيرة سرعان ما تتأقلم مع الوضع، وترد باستراتيجية الكر والفر، ما مكّنها من استدراج القوات النظامية التي تقاتلها في حرب استنزاف مكلفة بشرياً، وخصوصاً مادياً. بل صارت قادرةً على القيام بعمليات نوعيه، كهجمات واغادوغو أخيراً، ترد بها على ضرباتٍ موجعة تلقتها (هجمات واغادوغو أتت ردّاً على عمليةٍ قامت بها القوات الفرنسية شمالي مالي أخيراً استهدفت فيها عناصر من "أنصار الدين" على ما يبدو.
نظراً إلى ضعف دول المنطقة، تقود العسكرة حتماً إلى نشر قوات أجنبية، إقليمية (قوات
مجموعة الساحل 5) ودولية (فرنسية). ومن هنا، تأتي الحلقة المفرغة الأخرى: استقدام قوات خارجية لمحاربة جماعات إرهابية، هي في واقع الحال تزداد عزماً وتدميراً مع وجود القوات الأجنبية التي تصبح مستهدفةً بعمليات نوعية. إذ يزيد نشر قوات أجنبية في مسارح الجهاد الساحلية والشرق الأوسطية نرجسية التنظيمات الجهادية التي تدّعي مقاتلة جيوشٍ بأكملها، ما يسمح لها بالقيام بحملات تجنيد واسعة وعابرة للأوطان. فاستخدام الجماعات الإرهابية القوة أدى إلى عسكرة الدول لمحاربة الإرهاب، ما زاد من حدة النشاط الإرهابي، وهكذا دواليك... وأصبح المشهد معقداً إلى درجة أن الحامي، ضد الجماعات الإرهابية، بحاجة إلى من يحميه من هذه الأخيرة. إذا كان مقر قيادة أركان الجيش البوركيني الذي كان يعقد فيه اجتماع لقوة مجموعة الساحل 5 تعرّض لهجوم إرهابي، أوقع ضحايا عديدين في صفوف الجنود البوركينيين، فماذا عن الأهداف غير العسكرية التي قد تختارها هذه الجماعات الإرهابية؟
لا جدال في وجود خللٍ في منظومة مكافحة الإرهاب بشكلها الحالي. إذا كانت الأمور قد وصلت إلى مستوىً يصعب فيه العدول عن العسكرة، بسبب تصلب عود الجماعات الجهادية في الساحل، فإن عدم مراجعتها لتصحيح مواطن الخلل فيها، وتدعيمها باستراتيجية ناعمة (سياسية واجتماعية واقتصادية)، سيدخلان المنطقة في حرب استنزاف طويلة الأمد، ستنهك قواها الضعيفة أصلاً، وتزيد التهديدات اللادولتية حدة وحجماً.
ما يهمنا هنا ليس تحولات الجماعات الجهادية، من حيث التنظيم والخيارات والولاءات، وإنما معضلة عسكرة محاربة الإرهاب. فمجرد العسكرة يعني أن الدول المعنية فشلت في معالجة
بما أن الدول تقوم على احتكار استخدام العنف المشروع، حسب مقولة عالم الاجتماع الألماني، ماكس فيبر، فمجرد استخدام الجماعات الإرهابية السلاح بشكل واسع، وتحكمها في أجزاء شاسعة من التراب المالي أصبح بحد ذاته تهديداً لها، وإن كانت مدركات التهديد تختلف من بلد إلى آخر، حسب درجة الإنكشاف ومستوى القدرات. هكذا قابلت الدول العسكرة الإرهابية بعسكرة محاربة الإرهاب الذي أصبح التهديد الأساسي لدول المنطقة، في وقت تراجعت فيها تماماً الصراعات المسلحة بين الدول. وتتقاسم الجماعات الإرهابية والدول المنطق الإستراتيجي نفسه، أي صفرية الصراع، بمعنى هزيمة طرفٍ هي نصر للطرف الآخر، ولا توجد أي إمكانية لحل وسط، لأن الصراع وجودي. بيد أن هذه المعادلة الصفرية صحيحة جزئياً فقط. إذا كان من غير المعقول بالنسبة للدول أن تنهزم أمام جماعاتٍ إرهابية، لما لذلك من مخاطر وتهديدات بينة، فضلاً عن إمكانية اختفاء دول لصالح إمارات إرهابية، تمارس التقتيل العلني والواسع الإنتشار باسم خلافة الله في الأرض، لتعيث فيها فساداً، فإن للجماعات الإرهابية حاملاً اجتماعياً متجذّراً في مجتمعات دول المنطقة، وناقماً على حكوماته، فلولا المشكلات السياسية العالقة في دول المنطقة، ووجود حامل اجتماعي، لما صمدت الجماعات الإرهابية، لا سيما العابرة للأوطان، أمام الضغط المستمر الذي تمارسه عليها مختلف القوات المحلية والإقليمية والدولية.
عسكرة محاربة الإرهاب، من دون النظر في مسبباته ومعالجتها في منبتها، لن تجدي نفعاً. صحيح أنها تسمح بتوجيه ضرباتٍ موجعة للجماعات الإرهابية، إلا أن الأخيرة سرعان ما تتأقلم مع الوضع، وترد باستراتيجية الكر والفر، ما مكّنها من استدراج القوات النظامية التي تقاتلها في حرب استنزاف مكلفة بشرياً، وخصوصاً مادياً. بل صارت قادرةً على القيام بعمليات نوعيه، كهجمات واغادوغو أخيراً، ترد بها على ضرباتٍ موجعة تلقتها (هجمات واغادوغو أتت ردّاً على عمليةٍ قامت بها القوات الفرنسية شمالي مالي أخيراً استهدفت فيها عناصر من "أنصار الدين" على ما يبدو.
نظراً إلى ضعف دول المنطقة، تقود العسكرة حتماً إلى نشر قوات أجنبية، إقليمية (قوات
لا جدال في وجود خللٍ في منظومة مكافحة الإرهاب بشكلها الحالي. إذا كانت الأمور قد وصلت إلى مستوىً يصعب فيه العدول عن العسكرة، بسبب تصلب عود الجماعات الجهادية في الساحل، فإن عدم مراجعتها لتصحيح مواطن الخلل فيها، وتدعيمها باستراتيجية ناعمة (سياسية واجتماعية واقتصادية)، سيدخلان المنطقة في حرب استنزاف طويلة الأمد، ستنهك قواها الضعيفة أصلاً، وتزيد التهديدات اللادولتية حدة وحجماً.