وبينما لم يجلب التدخّل الخارجي في الساحل، سواء كان فرنسياً أو أميركياً أو أممياً، الاستقرار إلى المنطقة، يبرز توجه راهن نحو إحلال القوة العسكرية المشتركة من جيوش المنطقة مكان القوة الفرنسية والأممية وذلك بعد رفع عديدها من 5 آلاف جندي إلى 20 ألفاً. ومع هذا التوجه، تتجه الأنظار إلى موريتانيا، العضو في منظمة دول الساحل (التي تضم أيضاً بوركينا فاسو ومالي والنيجر وتشاد)، والتي تشترك في حدود برية طويلة (2200 كيلومتر) مع مالي، إحدى أكثر دول الساحل عرضة للهجمات الإرهابية، ويوجد على هذه الحدود إقليم كيدال الخاضع لسلطة المتمردين والذي نزح منه نحو موريتانيا 53 ألف لاجئ مالي منذ بدء الصراع عام 2012، ولا يزال هؤلاء يعيشون في مخيمات أقامتها مفوضية اللاجئين في شرق موريتانيا.
وتسعى نواكشوط، التي سبق أن عانت من الإرهاب ومن أتون الصراعات العرقية والقبلية الآتية من منطقة الساحل، إلى المساهمة الفعلية في أمن واستقرار منطقة الساحل لضمان جوار مستقر خالٍ من تجارة الأسلحة والإرهاب، فكيف ستساعد موريتانيا في أمن واستقرار المنطقة؟
بوابة أطلسية للساحل
وتملك موريتانيا جيشاً قوياً من حيث العدد والعتاد، كما أن سياستها الدفاعية والأمنية عرفت تطوراً كبيراً في السنوات العشر الأخيرة، عكس باقي دول المجموعة التي أُنهكت جيوشها بسبب المواجهات المستمرة مع الجماعات المسلحة، ودخول المليشيات إلى الجيش بعد اعتماد خطة إدماج المسلحين السابقين، ما ترتب عليه ضعف المهنية والولاء العسكري.
إضافة إلى ذلك، فإن القيادة الجديدة في موريتانيا معنية أكثر من غيرها بقضية استقرار الساحل وتطمح لإيجاد حلول سريعة لأمنه، على اعتبار أن الرئيس الموريتاني الجديد، محمد ولد الغزواني، الذي بدأ ولايته الرئاسية الصيف الماضي، مرشح لأن يخوض انتخابات لولاية أخرى، وبالتالي قد يبقى في الحكم لعشر سنوات، فيما تنتهي بعد أشهر قليلة الولايات الرئاسية لباقي رؤساء دول الساحل لأسباب متعددة.
كما يعد الرئيس الموريتاني أكثر رؤساء دول الساحل قرباً واهتماماً بملف الحرب على الإرهاب في منطقة الساحل، بسبب خلفيته العسكرية، فقد تدرج في المناصب الأمنية والعسكرية حتى أصبح رئيس أركان الجيش ثم وزيراً للدفاع، ونجح في إصلاح المؤسسة العسكرية وخاض حرباً شرسة ضد التنظيمات المسلحة التي لم تستطع شنّ أي هجوم إرهابي على الأراضي الموريتانية منذ عام 2011 عكس باقي دول الساحل التي تعاني جراء توالي الهجمات الإرهابية.
وعن ذلك، يقول الباحث السياسي أحمد محمود ولد اعبيدي، إن موريتانيا أصبحت من بين أكثر الدول أمناً واستقراراً في غرب أفريقيا، ما يعزز مكانتها ودورها في مجموعة الساحل، ويعطيها صلاحيات أكبر لاقتراح حلول عملية لتنظيم عمل القوة الأفريقية المشتركة التي تحارب الإرهاب في الساحل.
ويضيف في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "مجموعة الخمس لدول الساحل تتخذ من العاصمة الموريتانية نواكشوط مقراً لها بعد إنشائها عام 2014 بتحفيز من موريتانيا، وقد اختير أول قائد لقوتها العسكرية المشتركة من موريتانيا وهو الجنرال حننا ولد سيدي، الذي استطاع نقل تجربته الطويلة في إصلاح منظومة الجيش الموريتاني إلى هذه القوة المشكّلة من جيوش منطقة منهكة عانت حروباً إثنية بين القبائل والعشائر، وعرفت ثورات عديدة، ما أثّر على تكوين جيوشها، خصوصاً بعد دخول المتمردين إليها تنفيذاً لاتفاقات المصالحة مع الجماعات المسلحة، وما تلى فترة الانقلابات العسكرية من تغييرات، إضافة إلى تأثير الفساد المالي وتواضع الميزانية المخصصة للجيش".
وفي هذا السياق، برز إعلان الولايات المتحدة، يوم الأربعاء الماضي، عن خطة أولية لتنظيم وجودها العسكري في أفريقيا. وقال مسؤولون في البنتاغون إن التعديل الأول سيشهد استبدال جزء من فرقة مشاة تضم نحو 800 جندي بعدد مماثل من المتدربين والمستشارين العسكريين لدعم القوات المحلية في "الدول الأفريقية". وحاول قائد القوات الأميركية في أفريقيا الجنرال روجر كلوتييه، طمأنة المتخوفين من انسحاب أميركي، قائلاً للصحافيين "الرسالة التي أنقلها إلى شركائي (الأفارقة) هي أننا لن نغادر"، مضيفاً "نحن ما زلنا على التزامنا".
وهذه هي الخطوة الأولى للمراجعة الشاملة التي يقوم بها البنتاغون لانتشار القوات الأميركية حول العالم. وهذا قد يعني خفض انتشار القوات الأميركية المخصصة لمواجهة التهديد الذي يشكّله المتطرفون، بما في ذلك في أفريقيا. وتنشر الولايات المتحدة نحو 6 آلاف جندي في أفريقيا، بينهم 800 في غرب أفريقيا و500 من القوات الخاصة في الصومال، إضافة إلى عدد غير محدد في قاعدة جوية في النيجر.
الاعتماد على جيوش المنطقة
من جهته، يقول الخبير العسكري محمد سالم ولد حمدي، إنه "أصبحت هناك رؤية واضحة لفرنسا ودول المنطقة تتلخص في الاعتماد على تنحية الجنود الأجانب والاعتماد على جيوش المنطقة لأسباب متعددة، منها الكلفة الكبيرة للقوات الأجنبية وضغط الرأي العام، سواء في أوروبا الرافض لإقحام جنودها في معارك بعيدة، أو في دول الساحل التي خرجت فيها مسيرات ترفض هذا التدخّل، إضافة إلى استمرار معاناة الجيوش المحلية من الاستهداف على الرغم من مرور 6 سنوات على تدخّل القوات الأجنبية، ما فرض البحث عن خيار جديد هو تجهيز الجيوش المحلية وتحويلها من الدفاع إلى الهجوم".
ويشير ولد حمدي إلى أن هذا الخيار أصبح يفرض نفسه بقوة، خصوصاً بعد إعلان الولايات المتحدة انسحابها من الساحل وفشل فرنسا في إقناع دول أوروبية بالمشاركة بقوة في الحرب على الإرهاب في الساحل، مضيفاً أن "الفارق في الكلفة المالية هو لصالح جيوش المنطقة، فالقوة الأممية التي يبلغ تعدادها في مالي 13 ألف جندي كلفت منذ إنشائها نحو ملياري دولار، بينما القوة الأفريقية تأمل أن يتم تمويلها فقط بـ400 مليون دولار لخمس سنوات، إضافة إلى أن عامل الاستمرارية أيضاً لصالح الجيوش المحلية الباقية على الأرض والتي لا تفكر في حسابات الربح والخسارة، فخيارها الوحيد إما أن تنتصر أو تسقط ضحية الإرهاب المستفحل".
وعما يمكن أن تقدّمه موريتانيا للمجموعة باعتبارها أكثر البلدان استقراراً وأمناً، يقول الخبير العسكري إن "موريتانيا ستحتضن القمة المقبلة لمجموعة الخمس وفرنسا بعد ثلاثة أشهر، وهي تطمح لتوفير تمويل كبير يساعد على إطلاق القوة العسكرية المشتركة على الأرض، وعلى الرغم من أنها أنشئت عام 2017 إلا أن عملياتها ظلت محدودة"، مضيفاً "نشر القوة العسكرية القابلة للتأقلم مع تطوّر التهديدات وتطويع تدخّلاتها حسب الأولويات سيساعد كثيراً على دحر الجماعات المسلحة والقضاء عليها لاحقاً".
ويلفت إلى أن "موريتانيا تسعى حالياً إلى تعزيز التعاون بين أجهزة الأمن والمخابرات في المنطقة في مجال مكافحة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود عن طريق تحريك وحداتها العسكرية على حدود تبلغ 2500 كيلومتر تفصلها عن مالي والجزائر، لكنها ما زالت تتجنّب التوغل والاستفادة من حق المتابعة الذي وقّع عليه قادة مجموعة الخمس وتكتفي بالتحرك على الحدود وتجنّب الاصطدام مع الجماعات على أراضي دول الجوار".
ويتوقع الخبير العسكري أن تتغير هذه الاستراتيجية مع الرئيس الموريتاني الجديد "الذي رفع ورقة الأمن ووعد بمساعدة دول الجوار في محاربة الإرهاب، خصوصاً أن موريتانيا ما زالت تعاني من تأثيراته، إذ هي مصنفة في المنطقة الحمراء من قِبل فرنسا والولايات المتحدة"، داعياً إلى منح المنطقة الدعم اللازم لمواجهة مشاكلها من دون تدخّل، معتبراً أن تعدد الاستراتيجيات والتهافت على الساحل، سواء من قبل الصين أو روسيا أو فرنسا، وتدخّل دول وقوى جديدة، كتركيا والإمارات، سيزيد الوضع سوءاً، خصوصاً مع الأخذ بالاعتبار أن الساحل موطن لمخزون نفطي كبير وفيه مناجم اليورانيوم والذهب.