الرقة... الخراب والغنيمة!

01 فبراير 2018
+ الخط -
تحولت الرقة، وللأسف، من مدينة زراعية بامتياز، إلى مسرح لعمليات "داعش" والخراب والدمار الذي جلبه إلى أهلها البسطاء الطيبين، وبقيت حتى فترة قريبة تئِن من الألم، وتعيش الفاقة بكل مؤسساتها..

وكانت مجرد غنيمة، استسهلها الغزاة من كل حدب وصوب، ومورد رزق غير عادي لكل من حاول التحايل على أهلها، واغتصب منتوجاتهم، ونهب خيراتهم، وأبقاهم جياعاً مهمشين أذلاء يلتمسون الحاجة، نتيجة الفقر المدقع الذي أصابهم في الصميم، في ظل الظروف الحالية التي عايشوها على مدى السنوات الأربع الماضية.

الكثير من الصور الخرافية تصدرت المشهد المؤلم بتحويل الرقة إلى مدينة أشباح، ولحقها الدمار شبه الكامل، ما يعني مسحها عن بكرة أبيها من الخارطة السورية بذريعة محاربة "داعش"، وهذا ما أنهك كاهل أهلها، وشردهم وأبعدهم عن منازلهم ملتحفين السماء، وحولهم إلى مجرد أناس مسلوبي الإرادة، وهم في الواقع، ليس لهم "لا بالعير ولا بالنفير"، وموردهم الأساس ما تنتجه الأرض التي تعود إليهم ببعض الأمل.


حياتهم هذه انغمست فيها الكثير من المنغصات، وتجسد ذلك، وبوضوح، بدخول اللصوص والمرتزقة، والقتلة ومن كل أصناف البشر، وأتوا على كل ما يمكن أن يسد رمق أبنائها الذين، هم بالكاد باتوا قادرين على تأمين لقمة سائغة تخفف عنهم وطأة الحاجة الذليلة!

الأفكار تعيد بالذاكرة إلى هناك، حيث الرقة، المدينة التي عشنا فيها أيام الطفولة والصبا، وأمضينا فيها بقية العمر، إلى أن غادرنا أراضيها وقلوبنا وعيوننا تحدق إلى دروبها وحاراتها، وشوارعها العريضة، طرقاتها الواسعة، والى ذاك النهر الفياض، الذي يزوره أهل المدينة في قيظها الحار صيفاً.

فالرقة، وبكل هدوئها، ونبضات قلوب أهلها وطيبتهم وعشرتهم وأمانيهم وتوادهم، ظلوا كما هم، لم تغير الحياة بهم شيئاً، على الرغم من الأحداث التي حملت الكثير من الهموم والأوجاع والآلام، والفراق!.

هذه مدينة الرقة. مدينة الخليفة العباسي هارون الرشيد. المدينة التي أنجبت الطبيب والأديب عبد السلام العجيلي، رحمه الله، كما أنجبت المؤرخ والباحث، مصطفى الحسون، الذي انتقل إلى الرفيق الأعلى، والكثير من الأدباء والوجهاء، وغيرهم ممن حفل بهم تاريخ الرقة المعاصر.

الرقة، لم تستل يوماً خنجراً ولا سيفاً، ولم يطلب ابنها إلا العيش برغد، وأمان واطمئنان. العيش ببساطة، وفي ظل إمكانات محدودة، وقبِل بكل ما فيها، وتحمّل الأوجاع!. فابن الرقة، ظل دائماً مسالمًا، متألقًا، مقدامًا، وأكثر ما يميزه عن بقية أقرانه، شهامته، وأصالته، وبساطته، وكرمه، وانفتاحه على الناس.

إن ابن الرقة، لم يكن في يوم ما ميالاً للحقد، أو الاقتتال، بل كان أكثر ما يمِيل للتسامح، والبعد عن عقدة المظهرية، فعُرف بالبساطة في لباسه، وبصورة خاصة، لجهة ابن الريف الذي يزورها مع الصباح الباكر، جالباً معه، ما تنتجه أرضه الخيرة، من القطن "الذهب الأبيض"، ومن أنواع الحبوب والخضروات، فضلاً عن اهتمامه بتربية الأغنام، وما تنتجه من مواد أساسية لها طابعها الخاص لدى ابن الرقة.

الرقة، لها شهرتها بصناعة الجبن البلدي، والسمن العربي، واللبن "الخاثر" الذي أكثر ما يلقى روَاجاً لدى سكان المدينة، لأهميته في حياتهم اليومية، وهو من الوجبات الرئيسة، وأكثر ما يتناول في الإفطار وفي الظهيرة، ولاتخلو وجبة الغداء عن حضوره، ويتناول كسائل، هو ما يعرف باللبن، ناهيك عن البيض العربي، وحليب الأبقار، وهي الأخرى، صار لها حضورها في ريف المحافظة، والإقبال الشديد على تناوله، بعد أن لاقت تربيتها اهتماما خاصا من قبل الأهالي، أصحاب الخبرة.

وتقوم الرقة اليوم، إلى الشرق من حلب عاصمة بلاد الشام الاقتصادية على مسافة تبلغ مائة وثمانين كيلو مترا، إلى الشمال الغربي من مدينة دير الزور أكبر مدينة عربية على الفرات.. والتي تبعد عنها بمقدار مائة وأربعين كيلو مترا.

وعند نقطة "المقص" يتفرع طريق طوله ستة كيلومترات في اتجاه الشمال الشرقي ليتصل بجسر حديث البناء على الفرات، يؤدي مباشرة إلى مدينة الرقة.

وتعتمد الرقة على نهر الفرات العظيم الذي يقذف في كل نصف دقيقة من الزمن ما يكفي لاستهلاك مدينة كبيرة في كل يوم.. لهذا قامت على ضفتيه زراعة كثيفة، يحتل القطن فيها مكان الصدارة، ويليه في الإنتاج القمح -ذهب المستقبل- والخضار بأنواعها.

وللرقة شهرة عظيمة بزراعة البطيخ الأحمر والأصفر، الذي كان يصدر إلى عاصمة العباسيين، إذ لا يزال العراقيون يطلقون عليه اسم "الرقي" نسبة إلى الرقة، وهو الذي يدعى "الحبحب" في الحجاز، و"الجح" في نجد، و"الجبس" في حلب، و"الدبشي" في دير الزور والرقة، و"الدلاع" في كل أقطار المغرب العربي، مثلما كانت مشتهرة بزيتونها وزيتها وصابونها المعطر.

فالرقة، وأهلها يجمعهما خطان متوازيان لايمكن أن يفترق أحدهما عن الآخر، أضف إلى ذلك أسواقها المتواضعة التي يلتقي فيها الأصدقاء والمعارف والأقارب، والتي تشتمل على العديد من اللوازم ومتطلبات الحياة اليومية.

وابن الرقة، لا يمكن له أن يهجرها لأنها صارت جزءاً مهماً في حياته، وزيارة هذه الأسواق تظل لها مكانتها الخاصة في قلبه ووجدانه.

فابن الرقة، تحمل على مضض، الواقع المتردي الذي يعيشه، نتيجة غياب الخدمات الأساسية، التي يمكن أن تدفع به نحو حياة طالما حلم بها، ما يعني أن أهلها صاروا أسرى الحاجة، بكل ما تعنية الكلمة من معنى.

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.