صحيح ما يقال من أن سنونوة واحدة لا تأتي بالربيع، لكن السنونوة تتبعها عادة سنونوات كثيرة، تؤكد أن الشتاء إلى انحسار وأن شمساً دافئة آتية على مرأى العين. وكان طلاب جامعات الجزائر هم هذه السنونوة والسنونوات أيضاً، بعد أن استقروا ضمن طليعة نجحت في المحصلة في إطاحة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، عبر أنشطتها التي هتفت بالشعار الذي رفعته : "سلمية سلمية... ولا للعهدة الخامسة"، وتنادي المجتمع إلى الانخراط في حراك شامل يرفض ترشيح الرئيس المريض للاستمرار في تولي مسؤولية البلاد. كان هؤلاء الطلاب يدركون أن بقاء الرئيس لا يعدو أن يكون واجهة لأجهزة ومؤسسات الدولة العميقة بما تضمه من متمولين فاسدين وضباط محيطين به وممسكين بزمام الأمور فعلاً.
مع طليعة التحركات لجأت السلطات إلى تمديد العطلة الصيفية، وهو ما يحدث للمرة الأولى في تاريخ البلاد، لكن الرسالة التي أطلقها الطلاب وصلت إلى من يتوجب الوصول إليهم من سائر فئات المجتمع الجزائري أو داخل مؤسسات السلطة، خصوصاً بعد أن خرجت التظاهرات من داخل أحرام مؤسسات التعليم العالي إلى الشارع. وهكذا تحطم حلم التمديد، وسقطت محاولات قادة الحملة الانتخابية للتجديد للرئيس في التأثير على هذا الزخم الذي توسعت آفاقه، وانضوت في صفوفه فئات وشرائح مجتمعية تتجاوز الحرم الجامعي الذي أغلقته السلطات مرات عدة باعتباره مركز تجمع المحتجين، مانعة طلابه من الخروج منه إلى الشارع.
منذ 22 فبراير/ شباط 2019 تقريباً لم تتغير الصورة العامة إلا في التفاصيل، وما زال الطلاب على موعد المشاركة في النشاط العام من أجل إزاحة سائر رموز النظام والوصول لانتخابات رئاسية نزيهة تسفر عن تغيير حقيقي في بنية السلطة وحياة ديمقراطية. على أن هذه الرحلة لم تكن يسيرة، باعتبار أن الحياة الطلابية في الجزائر مثلها مثل معظم الدول العربية كانت محكومة من ممثليات طلابية تابعة لاحزاب السلطة، تتلقى التعليمات منها فتنفذ المطلوب منها، وفي المقدمة منها حزب جبهة التحرير الوطنية الحاكم.
المشهد الاحتجاجي الذي بات له موعد أسبوعي ثابت تتصدره جامعة الجزائر المركزية والكليات التابعة لها كالعلوم السياسية والطب والحقوق وغيرها، وتنطلق من حرمها مسيرات الاحتجاج والمطالبة نحو الشوارع الرئيسية في العاصمة. والحقيقة أن هذه المناخات انتقلت إلى جامعات الولايات الأخرى المجاورة للعاصمة مثل تيزو أوزو وبجاية والبويرة وبومرداس وتيبازة، إلى جانب سطيف وقسنطينة وباتنة ومسيلة ووهران وورقلة وأدرار.
لا شك أن شعاري السلمية ورحيل بوتفليقة هما حصيلة التجربة الخاصة في ضوء السنوات العشر الدامية التي عاشتها الجزائر ودفعت ثمنها غالياً، ومن أجل الخروج من تحنيط الحياة السياسية في البلاد مع بقاء رأس السلطة في موقعه دون تغيير، وهما قد تحققا وسقطت معهما منوعات القمع التي تعرضت لها حركات الاعتراض سواء تولاها الطلاب، أو قوى سياسية واجتماعية أخرى، لكن الثورة الطلابية والشبابية الجزائرية لم تحقق الإنجاز الأهم، بما هو تحقيق النقلة المطلوبة في حياة البلاد. لكن ما أطلقته تجاوز حدودها، كونه أعلن عن موجة متجددة من الربيع العربي التي عملت أنظمة القمع والاستبداد العربية إلى تحويل الأولى منها إلى مجزرة مروعة من خلال إغراقها بالدماء والدموع والدمار والتهجير.
*باحث وأكاديمي