الديمقراطيون العلمانيون وإنقاذ سورية

24 يونيو 2016
+ الخط -
في مقابل البراميل وأصناف الجحيم التي يصبها النظام السوري على المناطق الخارجة عن سيطرته، في مسعى يائسٍ منه لاستعادة كل شبر فقده من سورية، كما صرح رئيس النظام أمام مجلس النظام، فإنه يصبّ على المناطق الخاضعة لسيطرته براميلَ وحمماً من نوعٍ آخر، براميل من الفساد والتشبيح والسلبطة والتضخم والغلاء إلى حد الجوع، وملاحقة الشباب في الشوارع لسوقهم إلى الخدمة العسكرية..إلخ. على هذا، قد تحوّل النظام السوري، اليوم، إلى آلةٍ جهنميةٍ تمتص خيرات "سورية المحكومة" وأرواحها، لكي تحيلها ناراً ودماراً على "سورية المتمردة". والمحصلة أن هذا النظام بات وبالاً على السوريتين. هذا يعني، بداهةً، أنه أصبح عدواً لأوسع الفئات الشعبية في سورية، الخاضع منها للنظام وغير الخاضع له، وبات الخلاص منه مصلحةً مشتركةً للغالبية الساحقة من السوريين. والسؤال هو: ما الذي يمنع هذه المصلحة المشتركة من أن تتجسّد واقعياً في صورة قوة سياسية موحدة؟
في المقابل، أثبتت الفصائل الجهادية صاحبة القوة العسكرية الأساسية في مواجهة النظام، أنها لا تقل سوءاً عنه في إدارة مناطقها، وفي نزوعها السلطوي الذي وصل، غير مرة، إلى قمعٍ مباشرٍ للأهالي، وإلى اقتتالٍ بيني خلّف مئات القتلى. وأثبتت أنها ليست سوى نسخة "إسلامية" عن النظام، من حيث الفساد والتسلط والإقصاء..إلخ. وأن محيطها الاجتماعي يتقبل سوء ممارساتها باعتبارها تواجه النظام الفاحش في بطشه، في صورةٍ معكوسةٍ عن حالة الموالين.
فما الذي يعيق نشوء قوةٍ سياسيةٍ جماهيريةٍ للخلاص من هذين الكابوسين معاً؟
تسيطر، عند الجمهور السوري، تصوراتٌ سياسيةٌ خاطئةٌ عن الصراع الدائر. وهي تصوراتٌ تقوم، في الصف الموالي، على مزيجٍ "إيديولوجي"، يجمع عناصر حديثة إلى أخرى قديمة، يجمع المرجعية الطائفية إلى المرجعية العلمانية اليسارية. يرتسم الصراع في ذهن قطاع من الموالين على أنه مواجهةٌ ضد قوى إسلامية سنية طغيانية تريد تهميش أتباع الأديان والمذاهب الأخرى، وسحقهم، أو ربما إبادتهم. ويرتسم الصراع نفسه في ذهن قطاع آخر من الموالين على أنه ضد قوى إمبريالية، تريد إكمال سيطرتها على المنطقة بضرب النظام "الممانع" كجزء من ضرب محور المقاومة. وعليه، تمكّن هذا المزيج من جمع فئاتٍ شديدة التباين. وبات أعداء الأمس حلفاء اليوم، بفضل هذا المزيج. وفي الواقع، يتعايش هذان التصوران معاً في جبهة واحدة، ويتكاملان في ردف النظام وتصوير القوى المناهضة له على أنها قوى طائفية أو عميلة، تستمد الدعم من أميركا والسعودية ودول الخليج.
تشكلت، إذن، في ذهن الجمهور الموالي قضية، ويحتل النظام موقع الطليعة في الدفاع عن هذه
القضية التي تتطلب تضحياتٍ، وما الخسائر في الأرواح وجور النظام وتدنّي مستوى المعيشة إلى حدود الجوع..الخ، سوى من مفردات هذه الضريبة التي يجري قبولها، على قسوتها، لأنها تأتي في سياق دفع بلاءٍ أشدّ وأقسى.
هكذا يتصوّر الموالون ما يجري في سورية، أو لنقل إنهم يعون أنفسهم وموقعهم في هذا الصراع على هذا النحو، غير أن انعكاس هذا التصور الموالي في وعي الجمهور المقابل ليس مطابقاً لذاته. هنا، يبدو الكلام عن الإمبريالية والمقاومة، وما إلى ذلك، مجرد تغطيةٍ على نزعةٍ طائفية. ويبدو الخوف من مصير سيئ يتهدّد أبناء المذاهب غير السنية مجرد تغطيةٍ للدفاع عن امتيازات حالية. ويحاجج هؤلاء بالقول: من يحق له أن يخاف هم أهالي المناطق التي يستبيحها النظام بأسلحته الثقيلة، وليس مناطق النظام التي لم تتعرّض بعد كل شيء لجزءٍ يسير مما تتعرّض له المناطق الخارجة عن سيطرته.
لدى جمهور الثورة، جرى انزياحٌ مهم في الوعي، له أسبابه المفهومة، لكنه خطير ومضاد للثورة. محصلة هذا الانزياح أن الصراع بات يُفهم على أنه صراع هويات، صراع غير سياسي. تراجع، مثلاً، التوصيف الاستبدادي للنظام، ليطغى عليه التوصيف الطائفي، وبات التحليل الطائفي دارجاً، واختفى البعد السياسي الحقيقي للصراع. المأزق الذي وصل إليه الصراع يتمثل في أن المصلحة المشتركة للسوريين في الخلاص من النظام والجهاديين معاً تفشل في شق طريقها إلى مستوى الوعي السوري العام. الجمهور السوري صاحب المصلحة المشتركة يحمل وعياً منقسماً ومتعادياً. مصلحة مشتركة ووعي غير مشترك.
لا يمكن لسورية الخروج من هذه الحلقة الشريرة، إلا عبر ممرٍّ واحدٍ، يقع بين النظام والجهاديين، وهذا الممر الذي يحاول النظام والجهاديون معاً تضييقه وإغلاقه، هو الممر العلماني الديمقراطي. لا تفتقد سورية لقوى علمانية ديمقراطية، طرحت على الدوام مقترحاتٍ وتصوراتٍ وبرامج للخروج بسورية من محنتها، لكن لغة السلاح ومصالح الداعمين طغت. تفاقمت المشكلة مع التحاق غالبية أصحاب هذه الأفكار بمسار النظام أو الجهاديين. في حين على الديمقراطيين والعلمانيين واليساريين عموماً، أن يضمنوا استمرار وجود الممرّ الديمقراطي العلماني، وأن لا "يؤجلوه" بزعم أو تكتيك فاشل يحكي بالشر الأهون. لا يوجد شر أهون في سورية. سورية اليوم تصارع الموت بين فكّين، ولا معنى للمفاضلة بين أداتي القتل هاتين، أو الرهان على غلبة أحدهما.
المطلوب من الديمقراطيين أن يحافظوا على استقلاليتهم، وأن لا يسمحوا بأي اشتباهٍ لمفاضلةٍ بين النظام والجهاديين. ليس فقط لأن للجهاديين، كما للنظام، منطق استبدادي واحد، بل أيضاً وبلغة سياسية مباشرة، لأن المجتمع الدولي، وأميركا بالتحديد، لن تسمح بسيطرةٍ "جهاديةٍ" في سورية، وربما مالت إلى إعادة تأهيل النظام، فيما لو باتت أمام هذين الخيارين، والدليل الجديد رفض الرئيس باراك أوباما المذكّرة التي تقدم بها أكثر من خمسين من رجال الصف الثاني في الخارجية الأميركية الذين لهم علاقة بالشأن السوري، والتي تطالب بموقف أميركي عسكري أكثر حزماً تجاه نظام الأسد، شرطاً للخلاص من "داعش".
خروج الديمقراطيين، أولاً ونهائياً، من إسار هذا الاستقطاب هو بداية تشكيل قطبٍ ديمقراطي مستقل، يكون العنصر الذاتي المكمل للعنصر الموضوعي الذي تحدّثنا عنه في البداية، وهو المصلحة المشتركة لغالبية السوريين في الخلاص من النظام والجهاديين معاً.
F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.