الديكتاتور الذي لا رفيق له

26 يونيو 2014

حافظ الأسد تمثالاً محطّماً في جنوب لبنان (فبراير/2005/فرانس برس)

+ الخط -

وجب على حافظ الأسد، لكي يصل إلى حكم سورية في أوائل سبعينات القرن الماضي، أن يصفّي رفاقه، سجناً وقتلاً وترهيباً. هذا المراس اعتاد عليه معظم الديكتاتوريون، إذ أن رفاق (النضال) غالباً ما يتحولون إلى عبء سياسي، وأحياناً، إلى ضمائر أخلاقية، تلاحق المستبد إلى فراش نومه، لتذكرّه بأنه انحرف عن الغايات والأهداف المرجوّة، لكن النازع الأهم الذي يدفع نحو تصفية الرفاق، والتنكيل بهم، هو الخطر الذي يمثلونه، بوصفهم جزءاً من أيديولوجيا الديكتاتور وطوباويته المتوهمة. هم يحيلون إلى أناه الثورية المتخمة شعاراتياً. فتتحول الرفاقية إلى أداة تنكيل ضميري، تعيق طموحات المستبد، وتعرقل مخططاته، مما يدفع الأخير إلى الانتقام من ذاته، بإبعاد الرفاق وقتل ما تبقى فيه من مثالية سياسية. ليس ذلك سوى العلامة الأولى على الانتقال من الثورية الرومانسية، غطاءً للطغيان، إلى البراغماتية المحضة كسلوك له. 
في ذلك، أيضاً، إجابة أولية على سؤال العدو الذي قامت (الثورة) أساساً، وسيطرت على الحكم للبدء بالقضاء عليه. إذ يجري تعميم المماثلة بين العدوين، الداخلي والخارجي، لإنتاج التباسات شتى، تقلل الفروق بينهما؛ مما يسهل تقليص مفهوم العدو، ليناسب مصلحة الديكتاتور ونواياه، فيغدو العدو رفيقاً نافسه على فعل (الثورة)، وما استتبعها من سيطرة وحكم، بعد أن كان عدواً كونياً، يمص دم الشعوب، وكياناً سرطانياً يزرع المؤامرات في المنطقة. هذه المماثلة بين العدوين تسهل نقل الخصم الرفيق، من موقع الطامح للمنافسة على السلطة إلى موقع الخائن والعميل، تمهيداً لتصفيته، سجناً أو قتلاً. 

لا تأتي تلك الممارسة في سياق المقولة المتعارف عليها "الثورة تأكل أبناءها". واقع الحال أن الثورة تأكل الوهم الذي بنت ذاتها استناداً إليه، وتتحول إلى نازع سلطويّ، يبدي عنفاً تجاه أي شبهة رفاقية، تنتمي إلى الأمس الإيديولوجي القريب. هو مسار طبيعي لتلك العقائد القومية – العروبية التي توهم حامليها التغيير سبيلاً إلى السلطة، لتتبدّى، لاحقاً، صراعات شخصية وأهلية وفئوية.

وعليه، فإن تنظيف السلطة المستجدة، عسكراً وقمعاً واضطهاداً، من الرفاق السابقين ليس سوى نهج متأصل عند النظم العسكرية، استسهل حافظ الأسد ممارسته، لتثبيت أركان حكمه الدموي. لكن معاداة الرفاقية لا تتوقف عند حدود تعقيم السياسة، بل تمتد إلى المجتمع نفسه، فرفيق الفارس الذهبي، باسل الأسد، أمضى في سجون النظام أكثر من عشرين عاماً، لأنه نافس نجل الرئيس الراحل في لعبة الفروسية. أخطأ عدنان قصار في تقدير طموحاته، غافلاً عن حقيقة سقوط البلاد في جحيم الواحد الذي لا رفيق له.
لقد جرى تظهير نموذج باسل، تبعاً لأواصر القرابة، بوصفه الواحد على صعيد الفروسية، إلا أن مفاعيل هذا النموذج انسحبت على جميع عناصر الحياة في سورية. باسل كان أداةً لتعميم ما حصل في السياسة من إقصاء وتصفيات على المجتمع ككل. فكما أنه لا يحق لأحد مقاسمة الديكتاتور على السلطة، كذلك الأمر بالنسبة لبقية المجالات الحياتية. بشار نفسه كان الواحد على صعيد المعلوماتية، قبل أن يجري تحضيره لخلافة والده، ويصبح رئيساً للبلاد.
والجدير بالملاحظة أن فكرة الرفاقية نفسها تحمل في بذورها عناصر استخدامها بمفعول دكتاتوري، علامة على ابتلاع السياسة والمجتمع. فالرفيق الحزبي هو شريك في أيديولوجيا شمولية إقصائية، لا توفر سبيلاً عنفياً للقضاء على الآخر. هذه الشراكة تجعل منه مشروع ديكتاتور مؤجل، ينتظر الفرصة ليأكل رفاقه. ولنا أن نتخيل ما كان سيفعل القيادي البعثي صلاح جديد الذي أودعه حافظ الأسد السجن بعد انقلابه (التصحيحي)، لو امتلك أدوات القوة، على الأرجح، إنه كان سيعامل الأسد بالمثل، ويسير على خطاه في بناء ديكتاتورية وحشية، مشابهة للتي انتفض السوريون ضدها.  
ما يجعل انهيار الرفاقية في السياسة لصالح الاستبداد المطلق أمراً بديهياً، بحكم الطبيعة الإيديولوجية النافية التي يحملها الرفاق أنفسهم، لكن انهيارها في المجتمع من أجل ابتلاعه وتعميم فكرة الواحد على جميع قطاعاته تحتمل فهماً مختلفاً، لأنها لا تقوم على أساس عقائدي، وإنما على المنافسة التقنية، على غرار ما فعل الفارس عدنان قصار، مواجهاً باسل الأسد في مجال الفروسية.
غالباً ما يحارب الديكتاتور الرفاقية الحزبية في السياسة، بهدف قطع الطريق على نشوء ديكتاتورية مضادة، تشكل بديلاً عنه، أما محاربته لها في المجتمع، فهدفها إلغاء المجتمع نفسه.

دلالات
8BBD9EC4-AC04-46CB-9A15-981E319C4EE2
إيلي عبدو

كاتب وشاعر سوري مقيم في بيروت. نشر مقالات في عدة صحف ودوريات عربية، وتقارير وتحقيقات تتابع تطورات الأوضاع السورية الراهنة. وأصدر ديوانه الشعري "كابتسامة بطيئة مثلاً".