22 اغسطس 2015
قوة لبنان في ضعف سورية؟
ربط سمير قصير بين "ديمقراطية سورية واستقلال لبنان"، مستدرجاً الفعلين إلى ظرف سياسي واحد، يحرر العلاقة بينهما من آثار الاستلحاق البعثي، ويمنحها فرصة ممارسة الواقعية السياسية بكل ما تقتضيه من مصالح ومنافع متبادلة.
هذه المقولة التي شاعت بقوة بعد "ثورة الأرز" السريعة، التي طردت الجيش السوري من لبنان، اختُبر شقها الثاني في تلك الحقبة، فهزيمة الوصاية المخابراتية والأمنية والسياسية والاقتصادية البعثية لم تؤمن استقلال لبنان، بل زادت تعقيد الأوضاع فيه. وإذا كان حزب الله قد تولى مهمة إجهاض المحاولة الاستقلالية، عبر لعب دور الوصي الجديد، فإن طبيعة العلاقات بين الجماعات كشفت قصوراً فاضحاً في التحول نحو حالة وطنية خالية من الولاءات الخارجية. ولعل حزب الله نفسه هو نتيجة أولية للخلل بين الجماعات، قبل أن تستثمره إيران، وتوكله بوظائف شتى في لبنان وغيره.
ولو تجنبنا رصد أسباب هذا الخلل النافي لأي إجماع وطني، وغالبها تأسيسي، يتصل بنشوء الكيان، يسهل تسليط الضوء على مواقف سياسية، كشفت بعضاً من ملامح العطب الذي يحكم علاقة الجماعات اللبنانية، ويمنع تحوّلها إلى شعب واحد. فالبطريرك الماروني، مار نصر الله بطرس صفير، الذي لعب دوراً أساسياً في حشد ما سُميت "القوى الاستقلالية" آنذاك، رفض اقتلاع الرئيس الخصم، إميل لحود، بقوة التظاهر، لأن في ذلك تأسيساً لعرفٍ جديد، ينال من حصة الموارنة في السلطة.
وعلى الرغم من أن الطرف الآخر (قوى 8 آذار) لم يكن معنياً بأي جهد استقلالي، خطابياً على الأقل، فقد وقع في الفخ نفسه، إذ رفض رئيس الوزراء الراحل، عمر كرامي، في أثناء فرض حلفائه حصاراً على رئيس الحكومة، فؤاد السنيورة، مقترحاً تحمّس له انفعالياً حليفه، العماد ميشال عون، والقاضي باقتحام السراي الحكومي، تجنباً لحساسية سنية، تجد في هذا المقر قلعة نفوذية لها، في خريطة توزع السلطة.
وتكشف الحادثتان أن الواقع اللبناني، استناداً إلى التركيبة السياسية لجماعاته، يتعدّى وجود وصاياتٍ ليصبح منتجاً لها، إذ تتحول الوصاية من كونها احتلالاً خارجياً، على غرار حال البعث السوري وأدواته العسكرية، إلى مجالٍ للاستقواء والغلبة، ويبرز حزب الله مثالاً نموذجياً.
وخلافاً للبنانيين الذين شرّعوا خلل جماعاتهم، بمسوّغات التوازن الطائفي والمحاصصة، فإن السوريين، وهم من خصهم سمير قصير في الشق الثاني من معادلته، أي "ديمقراطية سورية"، لم يلحظوا أي أعطاب في بنيتهم الجماعاتية، بعد اندلاع الثورة ضد نظام الأسد، ذاك أن حالة الاستقواء الذي يسعى حزب الله إلى تمثيلها في لبنان سبقه إليها آل الأسد، قبل عقود، فنجحوا في إخضاع الجماعات السورية، بالقوة دائماً وبالرشى والمحفزات الصورية أحياناً، مما خلق ذواكر جمعية مثخنة بالقهر والغبن، تظهّرت ملامحها، بعد دخول الثورة في الطور العسكري. صحيح أن الاحتراب الأهلي لم يتبدَّ بصورة واضحة في سورية الحرب، واختلط مع مطالب الثورة وطبيعة الصراع ضد النظام، لكن الصحيح، أيضاً، أن تطبيق مبدأ "ديمقراطية سورية" لن يكون قريباً، بفعل النزعات الانتقامية التي تختزنها الجماعات ضد بعضها، مما يبشر بنشوء نظام سياسي، يقوم على الغلبة نفسها التي اتسم بها النظام، بشروط موضوعية مغايرة.
ويبدو غريباً أن يستنتج بعضهم، من قصور الحال السوري، ضعفاً وهشاشة، تستدعي الاستفادة من لبنان، بمعنى أن سورية الضعيفة مكسب لبلاد الأرز، يستفيد منها ليس للتخلص من الإرث البعثي فقط، بل وأيضاً من المرحلة التي سبقته، والتي تختصر قسراً بواقعة إغلاق رئيس الوزراء السوري، خالد العظم، الحدود بين البلدين، مما اعتبر خنقاً للاقتصاد اللبناني، في أواخر الأربعينيات. وهو ما يحيل معادلة سمير قصير التي امتحنت، بشقيها، إلى معادلة جديدة، ترى في ضعف سورية قوة للبنان، فرفض النموذجين، البعثي وما قبله، يرمي إلى الارتياح لبلاد مهشمة وضعيفة، تمنع عن لبنان كوابيس الاستلحاق السابقة، بمختلف تمثلاتها، الاقتصادية والسياسية.
لكن هذه النظرية تغفل الارتباط الجذري بين أوجه الخلل في البلدين، وإلا ماذا نسمّي ذهاب مقاتلين من الضاحية الجنوبية لنصرة فئةٍ سورية معينة، وذهاب آخرين من طرابلس لنصرة فئةٍ أخرى. أهواء الجماعات تفيض عن حدود الجارين، وتشكل ميولاً مشتركة، مما يسقط معايير الضعف والقوة على الجماعات نفسها.
قد تكون معادلة سمير قصير بعيدة التطبيق، لكن استبدالها بمعادلة جديدة، من نوع قوة لبنان في ضعف سورية، سيؤخر تطبيقها أعواماً إضافية.
ولو تجنبنا رصد أسباب هذا الخلل النافي لأي إجماع وطني، وغالبها تأسيسي، يتصل بنشوء الكيان، يسهل تسليط الضوء على مواقف سياسية، كشفت بعضاً من ملامح العطب الذي يحكم علاقة الجماعات اللبنانية، ويمنع تحوّلها إلى شعب واحد. فالبطريرك الماروني، مار نصر الله بطرس صفير، الذي لعب دوراً أساسياً في حشد ما سُميت "القوى الاستقلالية" آنذاك، رفض اقتلاع الرئيس الخصم، إميل لحود، بقوة التظاهر، لأن في ذلك تأسيساً لعرفٍ جديد، ينال من حصة الموارنة في السلطة.
وتكشف الحادثتان أن الواقع اللبناني، استناداً إلى التركيبة السياسية لجماعاته، يتعدّى وجود وصاياتٍ ليصبح منتجاً لها، إذ تتحول الوصاية من كونها احتلالاً خارجياً، على غرار حال البعث السوري وأدواته العسكرية، إلى مجالٍ للاستقواء والغلبة، ويبرز حزب الله مثالاً نموذجياً.
وخلافاً للبنانيين الذين شرّعوا خلل جماعاتهم، بمسوّغات التوازن الطائفي والمحاصصة، فإن السوريين، وهم من خصهم سمير قصير في الشق الثاني من معادلته، أي "ديمقراطية سورية"، لم يلحظوا أي أعطاب في بنيتهم الجماعاتية، بعد اندلاع الثورة ضد نظام الأسد، ذاك أن حالة الاستقواء الذي يسعى حزب الله إلى تمثيلها في لبنان سبقه إليها آل الأسد، قبل عقود، فنجحوا في إخضاع الجماعات السورية، بالقوة دائماً وبالرشى والمحفزات الصورية أحياناً، مما خلق ذواكر جمعية مثخنة بالقهر والغبن، تظهّرت ملامحها، بعد دخول الثورة في الطور العسكري. صحيح أن الاحتراب الأهلي لم يتبدَّ بصورة واضحة في سورية الحرب، واختلط مع مطالب الثورة وطبيعة الصراع ضد النظام، لكن الصحيح، أيضاً، أن تطبيق مبدأ "ديمقراطية سورية" لن يكون قريباً، بفعل النزعات الانتقامية التي تختزنها الجماعات ضد بعضها، مما يبشر بنشوء نظام سياسي، يقوم على الغلبة نفسها التي اتسم بها النظام، بشروط موضوعية مغايرة.
ويبدو غريباً أن يستنتج بعضهم، من قصور الحال السوري، ضعفاً وهشاشة، تستدعي الاستفادة من لبنان، بمعنى أن سورية الضعيفة مكسب لبلاد الأرز، يستفيد منها ليس للتخلص من الإرث البعثي فقط، بل وأيضاً من المرحلة التي سبقته، والتي تختصر قسراً بواقعة إغلاق رئيس الوزراء السوري، خالد العظم، الحدود بين البلدين، مما اعتبر خنقاً للاقتصاد اللبناني، في أواخر الأربعينيات. وهو ما يحيل معادلة سمير قصير التي امتحنت، بشقيها، إلى معادلة جديدة، ترى في ضعف سورية قوة للبنان، فرفض النموذجين، البعثي وما قبله، يرمي إلى الارتياح لبلاد مهشمة وضعيفة، تمنع عن لبنان كوابيس الاستلحاق السابقة، بمختلف تمثلاتها، الاقتصادية والسياسية.
لكن هذه النظرية تغفل الارتباط الجذري بين أوجه الخلل في البلدين، وإلا ماذا نسمّي ذهاب مقاتلين من الضاحية الجنوبية لنصرة فئةٍ سورية معينة، وذهاب آخرين من طرابلس لنصرة فئةٍ أخرى. أهواء الجماعات تفيض عن حدود الجارين، وتشكل ميولاً مشتركة، مما يسقط معايير الضعف والقوة على الجماعات نفسها.
قد تكون معادلة سمير قصير بعيدة التطبيق، لكن استبدالها بمعادلة جديدة، من نوع قوة لبنان في ضعف سورية، سيؤخر تطبيقها أعواماً إضافية.