08 نوفمبر 2024
الدور الأميركي في الأزمة الفنزويلية
تصاعدت حدّة الأزمة السياسية في فنزويلا، مع تمسّك طرفي النزاع على السلطة، الرئيس نيكولاس مادورو، من ناحية، ورئيس الجمعية الوطنية خوان غوايدو، من ناحية أخرى، بأحقية كل منهما في الرئاسة وعدم شرعية الطرف الآخر. ومما ضاعف من تعقيد الأزمة تحوّل فنزويلا إلى ساحة صراع بين قوى دولية، وتحديدا الولايات المتحدة، من جهة، وروسيا والصين، من جهة أخرى. ويتخوف خبراء من أن يبعث الصراع الأميركي - الروسي على فنزويلا "حربا باردة"، في أميركا اللاتينية، من جديد.
من حيث المبدأ، لا يمكن التغطية على الدور الأميركي في إشعال فتيل الأزمة في فنزويلا. بعد إعلان غوايدو نفسه رئيسا مؤقتا في 23 يناير/ كانون الثاني الماضي، سارعت إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى الاعتراف بشرعيته مباشرة. وقد زعم غوايدو والمعارضة أن مادورو، والذي كان قد بدأ دورة رئاسيةً ثانيةً قبل أسبوعين من ذلك، رئيس غير شرعي، ذلك أن الانتخابات التي فاز فيها العام الماضي كانت مزوّرة. وتعاني فنزويلا من أوضاع اقتصادية سيئة جدا، وتضخم شديد، وارتفاع حادّ في الأسعار، بل وفقدان سلع أساسية وأدوية كثيرة، على الرغم من أنها دولة مصدّرة للنفط، وتملك أكبر احتياطي نفطي مؤكّد في العالم. ومع أن الأزمة الاقتصادية مردّها الأول سوء الإدارة والفساد، إلا أنه، وبشهادة تقرير أممي صادر العام الماضي، فإن العقوبات الأميركية - الغربية، المفروضة على فنزويلا منذ أيام حكم الرئيس الراحل هوغو تشافيز (1998 - 2013)، ضاعفت إلى حد كبير من مداها.
صحيحٌ أن كل عناصر تَفَجُّرِ ثورة شعبية في فنزويلا متوفّرة، خصوصا أنها كانت، إلى عهدٍ
قريب، الدولة الأغنى في أميركا اللاتينية بسبب احتياطياتها الضخمة من النفط، إلا أن ذلك لا ينفي أن ثمّة أصابع تعبث في ساحتها الداخلية. وإلى الدور الذي لعبته العقوبات الأميركية - الغربية في تأزيم الأوضاع الاقتصادية في فنزويلا، فإن ثمة سببا آخر يدفع مراقبين عديدين إلى التشكيك في منطلقات هذه الثورة. من ذلك مثلا، أن تقارير تفيد بأن غوايدو التقى مسؤولين أميركيين وكولومبيين وبرازيليين سرّا في ديسمبر/ كانون الأول 2018. وتحكم الدول الثلاث حكومات يمينية، وهي الأشد معارضة لنظام مادورو. وكما سبقت الإشارة، سارعت الولايات المتحدة إلى تأييد شرعية غوايدو فور إعلان نفسه رئيسا. ولم تكتف الولايات المتحدة بذلك، بل سعت إلى تقويض نظام مادورو عبر وسائل عدة، أهمها اقتصادية وعسكرية.
على الصعيد الاقتصادي، سارعت واشنطن بعد إعلان غوايدو نفسه رئيسا إلى الاستحواذ على شركة سيتجو الفنزويلية النفطية العاملة في الولايات المتحدة، وسَطَت على حسابات الحكومة الفنزويلية، وسيطرت على ممتلكاتها وأصولها في الولايات المتحدة، ووضعتها تحت تصرّف غوايدو، وذلك على أمل خنق نظام مادورو، ودفع المؤسستين، العسكرية والأمنية، إلى التخلي عنه. وعلى الصعيد العسكري، لم تفتـأ واشنطن تلمح به، خصوصا بعدما ظهر جون بولتون، مستشار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في مؤتمر صحافي، وفي يده كرّاسة ملاحظات مكتوب عليها "5000 جندي إلى كولومبيا".
وعلى الرغم من أن علاقاتٍ سياسيةً وعسكريةً واقتصاديةً وثيقةً تربط نظام مادورو مع روسيا والصين، غير أنه من غير المرجح أنهما ستهبّان لنجدته عسكريا، في حال وقوع غزو أميركي لبلاده. تقع فنزويلا ضمن الفضاء الحيوي الجيوستراتيجي الأميركي، حسب "مبدأ مونرو" الصادر عام 1823، والذي ينصّ على أن القارّتين الأميركيتين، الشمالية والجنوبية، هما منطقتا نفوذ أميركي حصري، يحظر على غيرها من القوى منازعتها فيها. وإذا كانت الولايات المتحدة قد خسرت كوبا، أواخر خمسينيات القرن الماضي، فإنها لم تلبث مع أزمة الصواريخ الكوبية مع الاتحاد السوفييتي، عام 1962، أن احتوت تداعيات خروج كوبا من فلكها. أيضا، لم تتردّد الولايات المتحدة بعد ذلك في التدخل بدولٍ أخرى في أميركا اللاتينية لضمان بقائها في مدارها. ولا يعني هذا كله أن روسيا والصين ستسلمان بسهولة بسقوط نظام مادورو، إذ ستترتب على ذلك خسائر كبيرة لهما، استراتيجيا واقتصاديا. مثلا، قدّمت كل من روسيا والصين قروضا بعشرات مليارات الدولارات لفنزويلا، وهي مؤمّنة بعقود بيع النفط فقط. وفي حالة الصين، فإن لها، فوق ذلك، استثمارات كبيرة هناك في قطاعات النفط والصناعة والبنى التحتية. وفي حال إطاحة نظام مادورو، ثمة شكوك في أن يستعيدا تلك القروض. استراتيجيا، ترى روسيا والصين في وجود نفوذ لهما في الفناء الخلفي للولايات المتحدة عاملا معادلا، وإنْ نسبيا، لتحرّش الولايات المتحدة بهما في أوكرانيا وتايوان. ولعل من المهم هنا الإشارة إلى أن روسيا والصين تملكان قاعدتين استخباريتين في فنزويلا.
في الإطار العام، يستبعد خبراء أميركيون كثيرون تدخلا عسكريا أميركيا قريبا في فنزويلا،
فإدارة ترامب ما زالت تطمح أن ينقلب قادة الجيش على مادورو، بعد أن يستوعبوا حجم عبئه عليهم. ومع ذلك، لا يعني هذا أن إمكانية تدخل عسكري أميركي معدومة كليا. ولعل ما يعزز من فرص الخيار العسكري وجود شخصيتين متطرفتين في مواقع القرار الأميركي المتقدمة في هذا الشأن، وهما، مستشار الأمن القومي الأميركي، جون بولتون، وإليوت أبرامز، والذي عينه وزير الخارجية مايك بومبيو، في الخامس والعشرين من الشهر الماضي، مشرفا على الملف الفنزويلي. وكلاهما خدما في إدارة الرئيس الأسبق رونالد ريغان، وكان لهما دور مباشر في تورّط الولايات المتحدة في مجازر وانقلابات وفوضى وقعت في أميركا اللاتينية، في ثمانينيات القرن الماضي، وتحديدا في غواتيمالا، السلفادور ونيكاراغوا. كما أن دورهما في دفع إدارة جورج بوش الابن لغزو العراق عام 2003 موثق.
باختصار، يجد نظام مادورو نفسه في وضع حرج في الأزمة الحالية، واحتمالات نجاته منها تتضاءل، اللهم إلا إذا توصل إلى صفقةٍ مع إدارة ترامب. وهذا مستبعد جدا، أو أن يتمكّن من الالتفاف على العقوبات الأميركية – الغربية، والوصول إلى سيولة نقدية كافية تمكّنه من الحفاظ على ولاء المؤسستين، العسكرية والأمنية، وهذا صعب. الأصعب منه أن يجد حلولا ناجعة للأزمة الاقتصادية الكارثية التي تطحن شعبه وبلاده.
من حيث المبدأ، لا يمكن التغطية على الدور الأميركي في إشعال فتيل الأزمة في فنزويلا. بعد إعلان غوايدو نفسه رئيسا مؤقتا في 23 يناير/ كانون الثاني الماضي، سارعت إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى الاعتراف بشرعيته مباشرة. وقد زعم غوايدو والمعارضة أن مادورو، والذي كان قد بدأ دورة رئاسيةً ثانيةً قبل أسبوعين من ذلك، رئيس غير شرعي، ذلك أن الانتخابات التي فاز فيها العام الماضي كانت مزوّرة. وتعاني فنزويلا من أوضاع اقتصادية سيئة جدا، وتضخم شديد، وارتفاع حادّ في الأسعار، بل وفقدان سلع أساسية وأدوية كثيرة، على الرغم من أنها دولة مصدّرة للنفط، وتملك أكبر احتياطي نفطي مؤكّد في العالم. ومع أن الأزمة الاقتصادية مردّها الأول سوء الإدارة والفساد، إلا أنه، وبشهادة تقرير أممي صادر العام الماضي، فإن العقوبات الأميركية - الغربية، المفروضة على فنزويلا منذ أيام حكم الرئيس الراحل هوغو تشافيز (1998 - 2013)، ضاعفت إلى حد كبير من مداها.
صحيحٌ أن كل عناصر تَفَجُّرِ ثورة شعبية في فنزويلا متوفّرة، خصوصا أنها كانت، إلى عهدٍ
على الصعيد الاقتصادي، سارعت واشنطن بعد إعلان غوايدو نفسه رئيسا إلى الاستحواذ على شركة سيتجو الفنزويلية النفطية العاملة في الولايات المتحدة، وسَطَت على حسابات الحكومة الفنزويلية، وسيطرت على ممتلكاتها وأصولها في الولايات المتحدة، ووضعتها تحت تصرّف غوايدو، وذلك على أمل خنق نظام مادورو، ودفع المؤسستين، العسكرية والأمنية، إلى التخلي عنه. وعلى الصعيد العسكري، لم تفتـأ واشنطن تلمح به، خصوصا بعدما ظهر جون بولتون، مستشار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في مؤتمر صحافي، وفي يده كرّاسة ملاحظات مكتوب عليها "5000 جندي إلى كولومبيا".
وعلى الرغم من أن علاقاتٍ سياسيةً وعسكريةً واقتصاديةً وثيقةً تربط نظام مادورو مع روسيا والصين، غير أنه من غير المرجح أنهما ستهبّان لنجدته عسكريا، في حال وقوع غزو أميركي لبلاده. تقع فنزويلا ضمن الفضاء الحيوي الجيوستراتيجي الأميركي، حسب "مبدأ مونرو" الصادر عام 1823، والذي ينصّ على أن القارّتين الأميركيتين، الشمالية والجنوبية، هما منطقتا نفوذ أميركي حصري، يحظر على غيرها من القوى منازعتها فيها. وإذا كانت الولايات المتحدة قد خسرت كوبا، أواخر خمسينيات القرن الماضي، فإنها لم تلبث مع أزمة الصواريخ الكوبية مع الاتحاد السوفييتي، عام 1962، أن احتوت تداعيات خروج كوبا من فلكها. أيضا، لم تتردّد الولايات المتحدة بعد ذلك في التدخل بدولٍ أخرى في أميركا اللاتينية لضمان بقائها في مدارها. ولا يعني هذا كله أن روسيا والصين ستسلمان بسهولة بسقوط نظام مادورو، إذ ستترتب على ذلك خسائر كبيرة لهما، استراتيجيا واقتصاديا. مثلا، قدّمت كل من روسيا والصين قروضا بعشرات مليارات الدولارات لفنزويلا، وهي مؤمّنة بعقود بيع النفط فقط. وفي حالة الصين، فإن لها، فوق ذلك، استثمارات كبيرة هناك في قطاعات النفط والصناعة والبنى التحتية. وفي حال إطاحة نظام مادورو، ثمة شكوك في أن يستعيدا تلك القروض. استراتيجيا، ترى روسيا والصين في وجود نفوذ لهما في الفناء الخلفي للولايات المتحدة عاملا معادلا، وإنْ نسبيا، لتحرّش الولايات المتحدة بهما في أوكرانيا وتايوان. ولعل من المهم هنا الإشارة إلى أن روسيا والصين تملكان قاعدتين استخباريتين في فنزويلا.
في الإطار العام، يستبعد خبراء أميركيون كثيرون تدخلا عسكريا أميركيا قريبا في فنزويلا،
باختصار، يجد نظام مادورو نفسه في وضع حرج في الأزمة الحالية، واحتمالات نجاته منها تتضاءل، اللهم إلا إذا توصل إلى صفقةٍ مع إدارة ترامب. وهذا مستبعد جدا، أو أن يتمكّن من الالتفاف على العقوبات الأميركية – الغربية، والوصول إلى سيولة نقدية كافية تمكّنه من الحفاظ على ولاء المؤسستين، العسكرية والأمنية، وهذا صعب. الأصعب منه أن يجد حلولا ناجعة للأزمة الاقتصادية الكارثية التي تطحن شعبه وبلاده.