الدعاة الجدد وغرامهم بالورد

14 يوليو 2016

الشيخ مبروك عطية المعروف بأبو وردة

+ الخط -
لن نطلب أبداً، والعياذ بالله، من بنت الأخت شمس البارودي، مثلاً، أن تحمل الرحى على رأسها صيفاً في بطحاء مكة، كي تطحن الشعير لفرس زوجها، بعدما تعد له قربته وسهامه وترسه، كي يذهب لمحاربة الكفّار في مرج بني عامر أو العصافرة أو بين النهدين. وأيضاً، لن نغلق ميدان التحرير، كي تتمكّن السيدة عفاف شعيب أن ترسل مع الدليفري كيلو الكباب والريش إلى ابن أختها المسكين، لأن لا شيء في ثلاجتها أبداً، بعدما أكل الجراد الأخضر واليابس في بر مصر، ثم انطلق إلى المزارع والنخيل في قرطاجة، كما أن من المضحك أيضاً أن يعلق داعية وردة حمراء آتية توّاً من الخميلة على جانب جاكتته، وهو يتكلم عن العدل، من الأستديو، ويشير بيديه إلى شريط معروض في الأستديو نفسه عن عشرين ألفاً من عمال الزبالة مع خنازيرهم وقشر البطيخ والثعابين.
منطق الثلاثة يشبه بعضه تماماً، فالثلاثة، بنت شمس البارودي، وعفاف شعيب، والداعية أبو وردة، كلهم في بنها العسل، أو داخل الأستديو مع التكييف، أما الرحى - التراث، والشعب، والعشرون ألفاً من عمال الزبالة، فهم مع وسط الزبالة وقشر البطيخ والثعابين في الشارع، والأستديو والتكييف مع الورد ورجال الأعمال، في حماية بركة الدعاة الجدد. بركة لا تحمي الخنازير من الذبح، ولا تقدّم سريراً لمريض في مستشفى الكوم الأحمر، هذا إذا كان في الكوم الأحمر وحدة صحية أصلا.
الدعاة الجدد ظاهرة وردية مزروعة في استديو الحياة، أو حول حمامات سباحة الأندية، لكنها ليست مزروعة في ضمير العدالة، والعدالة هناك، نائمةٌ في سترة القاضي (أبو شارب وسلسلة)، والقاضي ينتظر عطايا الحاكم، أو لقمة القاضي، أو المصيف من دماء أصحاب الخنازير والدجاج والبانجو والحشيش.
رحم الله أبا حنيفة؛ رفض قضاء المنصور، وتولى عدّ لبنات البناء في سور بغداد، وإن كنا أيضاً لن نطلب من عمرو خالد، مثلاً، أن تكون نهايته مثل نهاية أبي حنيفة. ولن نطلب منه مثلاً ألا يكوّن حزباً سياسياً بعد ثورة يناير، ويشهره ويقدّم برنامجه، مع مصاحبة لقاءات تلفزيونية عديدة، ولن نقول إنه بأمر الأمن، كما قال بعضهم وظن، ثم بعد ذلك يلغي الحزب في غمضة عين بعد 30/6، وكأن شيئا لم يكن، وقد كانت من كوادره دكاترة جامعات تكحل العيون، بما فيهم عيون إليسا، وعيون صفية العمري في "ليالي الحلمية"، فهل الحزب كان بأمر الأمن، وكان غلقه بأمر الأمن أيضا، أليس الله بكافٍ عبده، وحاميه، أم أن الحماية الحداثية للدين أصبحت بيد الأمن؟
أعرف أن المظاليم لا يذهبون إلى نادي الجزيرة أو نادي هليوبولس، ولا يدفنون كلابهم في نادي الشمس، ولا يستجلبون خادماتهم من دول شرق آسيا، ولا يذهبون للعمرة 33 مرة غير الحجّات، ولا يشترون بذور الورد من هولندا، ولا طعام قططهم وكلابهم من شارع عبد الخالق ثروت أو عباس العقاد، لأن العقاد نفسه كان يعيش من عائد كتبه ومقالاته، حتى وإنْ كانت قليلة، ولم يتسلق سلماً خلفياً في الليل كي يلاغي السلطة من سلم الخدم، بل ذاق السجن، وترك سيرته العطرة مدفونةً في الكتب وصدور تلاميذه.
ما للأحزان تتناسل، هذه الليلة، على أصحاب الكتب؟ كنت عائداً من جنازة لأحد الأصدقاء، وكان قد قال لي: "تعرف مرضي ده هو نفسه مرض المحامي الكبير صاحب البايب. ولكن المحامي نُقل في 9 ساعات إلى باريس، وأنا أجلس بجوارك". هوّنت على صديقي ساعتها بحيل اللفظ وفكّ المجالس، كما يقولون. ولكن، ها أنا أعود من جنازته، وها أنا أرى الداعية أبو وردة في كامل زينته، يبحر مع الأحاديث من بخارى وسمرقند، حتي يصل إلى الحجاز أو وادي العقيق، من دون أن يبرد اللبن، ومن ودون أن تذبل الوردة، ومن ودون حتى أن ينقطع نور الاستديو، ولا برودة تكييفه، ومن دون أن أقول لصديقي الذي دفناه من ساعتين، ومازال المحامي حيّا بالبايب: "لا تزعل مني، يا صديقي، حينما كنت بجوارك في المستشفى، وأنت تداري دمعاتك، كان ذلك حيلةً مني، مثل الدعاة الجدد، لكني لم أكن أحمل وردةً ساعتها، ولا كرافتة، ولا كانت كلمتني عفاف شعيب، كي أحضر له بذوراً من هولندا لوردة الأوركيد، ولا كيلو كباب أو ريش لابن أختها المسكين، فوداعاً يا صديقي.
دلالات
720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري