عندما يكبر أحفاد السوريين، الذين رفعوا أنقاض القصف بأناملهم قبل آلاتهم، سيروي لهم أجدادهم الذين عرفوا بـ"أصحاب الخوذ البيضاء"، قصصاً حزينة وأخرى مبعثرة قد يرمم الزمن بعض جراحها، ويدمل البعض.
سيخبرونهم كيف عانقت أكفهم أكف بعض لينثروا السلام، وكيف تقاسموا الموت كما تقاسموا الرغيف في ليالي البرد، سيقصون للجيل القادم قصص أطفال ماتوا على سرير، وأطفال نجوا تحت جدار.
حمل شهر مارس/آذار 2013، معه بداية أعمال الدفاع المدني في حلب، والذي تشكل من خمسة عناصر من شبان متطوعين، هدفوا إلى تقديم عمل إنساني وإنقاذ أرواح الأبرياء، حين بدأت المجازر في المدينة واستخدم النظام البراميل في حي بستان القصر ومساكن هنانو، بحسب قول أحد عناصر الدفاع المدني في مدينة حلب، إبراهيم أبو الليث.
ويروي مدير المكتب الإعلامي للدفاع المدني بحلب وريفها، أبو الليث، لـ"العربي الجديد"، قصته مع العمل في الدفاع المدني والتي انطلقت بداية عام 2013 كمتطوع، ثم انتقل إلى التوثيق الإعلامي، حتى أصبح مدير المكتب الإعلامي بحلب وريفها.
بين ثلاثة آلاف متطوع من أصحاب الخوذ البيضاء في مختلف المناطق السورية، يوجد 500 متطوع في حلب وريفها، قدّم 47 عنصراً منهم حياتهم بعد ما أنقذوا حياة آلاف المدنيين، لملموا قصصهم المؤلمة وقصص من أنقذوهم وناموا بسلام كما نشروا السلام حين كانوا أحياء.
ويقول أبو الليث "في ذاكرتي قصص نجاح كثيرة لعملنا، وأكثر قصة لم تفارق مخيّلتي منذ بداية عملي مع الدفاع المدني، قصة الطفل المعجزة (محمد الباش)، الذي بقي 16 ساعة تحت الأنقاض، في منطقة الأنصاري بحلب، فبينما كنت أصور دمار القصف والأنقاض في المنطقة، وبينما أصدقائي يتابعون عملهم برفع الأنقاض، سمعنا صوت طفل تحت أحد الجدران، ليسارع أحد عناصر الدفاع المدني ويخرجه بعد 16 ساعة حيا، حينها لم يكن لدينا كلمات تسع فرحنا لسلامة الطفل".
لا تنتظر أن ينتهي حديث عنصر من عناصر الدفاع المدني، ففي كلامه قصص ولادة واحتضار شعب بأكمله، فهي تؤرشف الفترة الأشد سواداً في تاريخ الإنسانية، وتتضمن في ذات الوقت تخليدا للأشخاص الأكثر إنسانية، الأمر الذي أثار حفيظة نظام الأسد وحلفائه الروس، وجعلوا هذه المجموعات هدفاً مباشرا ودائماً للغارات التي تغص بها سماء المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية، لتخسر هذه المجموعات التي تنشط في 8 محافظات 141 عنصرا.
لم يتمالك أبو الليث دموعه حين سألناه عن صديقه، خالد عمر حرج، والملقب بـ"منقذ الأطفال"، لكثرة الأطفال الذين أخرجهم من تحت الأنقاض، والذي قتل في أثناء تأديته عمله، وتسبب مقتله بغصة في قلب معظم أهالي حلب، فـ"حجارة حلب تحبه وأطفالها تحبه" كما وصف أبو الليث، وهو واحد من 47 عنصراً فقدوا حياتهم في حلب.
وأردف أبو الليث: "ترك موت خالد أثراً حزيناً فينا، فقد بدأ معنا العمل منذ بدايات تشكيل فريق الدفاع المدني، ورغم أن الولايات المتحدة دعت خالد بعد أن أنقذ الطفل المعجزة، محمد الباش، ليقابل أعضاء من الكونغرس، وسافر إلى أميركا، وعرضوا عليه البقاء ولم شمل عائلته، لكنه رفض وآثر العودة إلى بلاده، ليموت شهيداً على أرضها بعدما قدم لحلب الكثير".
لايبدي أبو الليث الخوف من الموت، فيقول: "في حضرة الموت نحن نعيش يوما بيوم"، معبرا عن اعتزازه بأن "أصحاب الخوذ البيضاء لم ينتموا إلى فصيل أو جهة سياسية أو عسكرية"، متابعاً "منظومة الدفاع المدني منظمة إنسانية محايدة، لذا فإن الناس تحبنا نظراً لعملنا الإنساني وتعريض أرواحنا للخطر تحت القصف".
ويواصل حديثه: "أثبتنا للعالم بعد 3 سنوات ونصف السنة أننا منظمة حيادية، إنسانية تعمل على الأرض تحت الخطر، نلاحق الموت ونلاحق البرميل مما أثار تحيز الناس لنا وتقبلهم لنا ولوجودنا بينهم".
ويبدي أبو الليث، خريج المعهد الهندسي، فخره بفوز أصحاب الخوذ البيضاء بجائزة نوبل البديلة، الذي اعتبرها فخراً لهم، وفخراً للثورة السورية التي تنبع منها هذه المؤسسة الثورية، بعد أن بات لهم إدارة في كل سورية نظراً لتبلورعمل الدفاع.