الخدمة العسكرية في مصر: مجنّد برتبة نادل

29 سبتمبر 2016
(حملة "مجندة مصرية". الصورة: صفحة الحملة على فيسبوك)
+ الخط -
يُحيلنا الحديث عن اقتصاد الجيش المصري، والذي تُشكّل نسبته في بعض التقديرات بين 20 و40% من حجم الاقتصاد الوطني، وهناك تقديرات ترفع النسبة إلى أعلى من ذلك بكثير، إلى الحديث عن الوضع الاستثنائي الذي يتمتّع به الجيش؛ يتمثّل جزء منه في تعزيز صفوفه بعشرات الآلاف من "العمّال" سنوياً بشكل شبه مجاني، عبر التجنيد الإجباري للشباب. لكن تظل الحلول التي تُطرح لإبعاد قبضة الجيش عن الاقتصاد لا تشمل إعادة النظر في نظام التجنيد الإلزامي، والذي يُساق بمقتضاه مليون شاب سنوياً لأداء الخدمة العسكرية الإجبارية.


نظام بدائي
في خطاب مؤرخ في 18 شباط/فبراير 1822، أصدر والي مصر محمد علي باشا مرسوماً، لأوّل مرة في البلاد، يأمر فيه بتجنيد أربعة آلاف مصرياً من مديريات الصعيد. قرار أشار إليه الكاتب خالد فهمي، في مؤلّفه "كل رجال الباشا"، بأن هذه الخطوة كانت ورقة الباشا الأخيرة التي اضطر إلى استخدامها، بعد أن أيقن أنه لن يستطيع الاعتماد على المماليك لإنشاء جيش على النمط الحديث، وبعد أن فشل في ضبط القوات الألبانية المشاكسة، وفشل حملات اصطياد السودانيين من أجل تكوين جيش حديث.

تجنيد المصريين في الجيش كان قرارًا استثنائيًا، فالباشا كان يخشى أن يؤثر تجنيد الفلاحين على القطاع الزراعي؛ المصدر الرئيسي للدخل. لكن هناك تحوّلًا جعل الباشا يتجاوز مخاوفه بشأن التأثير على القطاع الزراعي، وتحوّل "القرار اﻻستثنائي" بتجنيد الفلاحين إلى قاعدة دائمة، فقد فعلها المصريون، ونجحوا في ما فشل فيه غيرهم. فكانوا أكثر انضباطًا في التدريبات، وتجاوزوا الاختبارات التي وضعت لهم واحدًا تلو الآخر؛ هزموا "الوهابيين" المتمرّدين في عسير، وأظهروا ولاءً منقطع النظير للباشا عندما نجحوا في دحر انتفاضة كبيرة في الصعيد، نشبت ضد سياسات الباشا في التجنيد والضرائب، خلّفت مقتل أكثر من أربعة آﻻف شخص.

هكذا بدأ عصر التجنيد الإجباري في مصر، لكن الملفت للنظر أن هذا النظام صمد على مدى قرنين من الزمن؛ تنشب الثورات، وتسقط أسرة مؤسس النظام، وتقوم جمهوريات، ويتوالى رؤساء على الحكم، لكن نظام التجنيد الإلزامي بقي صامدًا، في حين تتخلّى كثير من الدول الحديثة عن التجنيد الإجباري لصالح إنشاء جيوش محترفة تعتمد على المتطوّعين، أو تغري من يؤدّون الخدمة العسكرية بالامتيازات المادية والمعنوية، لكن مصر ترفض التخلّي عن نظامها "البدائي".


نادل في الجيش
كل قرار يتّخذه أيّ نظام سياسي، مهما بلغت "ديكتاتوريته" بحاجة إلى تبرير، أو إيجاد ردٍّ جاهز يُلقى على أسماع المتضرّرين من نتائجه، لمحاولة تخفيف وقعه عليهم. هكذا وجد علي باشا نفسه في حاجة إلى تبرير قرار تجنيد الفلاحين إجباريًا، فبرّر قرار التجنيد بأنه خدمة لأمير المؤمنين السّلطان العثماني وليس من أجل مجده ومجد أسرته وأطماعه التوسّعية، لكن هذه الحجة سقطت عندما وجد الفلاحون أنفسهم يحاربون جيش السّلطان العثماني نفسه.

وكما وجد محمد علي نفسه في حاجة إلى تقديم حجّة إلى الفلاحين لتبرير قرار التجنيد منذ قرنين، تبرز اليوم حاجة قيادات الجيش المصري إلى تبرير استمرار نظام التجنيد الإجباري بهذا الشكل إلى الآن.

الحجّة الجاهزة الأولى للردّ عن سبب استمرار هذا النظام، والتي تُردّد على أسماع المجنّدين في مراكز التدريب، هي وجود عدوٍّ متربّصٍ بمصر يتحيّن الفرصة لينقض عليها. ورغم أن هذه الحجّة لم تعد مقنعة كفاية، بعد مرور أكثر من 40 عامًا على آخر حروب الجيش المصري، وبعد أن أصبح الالتزام بالسلام مع "إسرائيل" عقيدة لقيادات الجيش، وبعد أن أصبحت اتفاقية "كامب ديفيد" الخطّ الأحمر الوحيد الذي لا يستطيع أحد الاقتراب منه، ما زالت عملية ترويج مثل هذه الشعارات "العدو المتربص" متواصلة، كما يروي المجنّد (م. م).

الحجّة الأخرى التي يتمّ ترويجها بحدّة أيضًا؛ هي ضعف الدولة بعد ثورة 25 يناير، وحاجتها إلى جيش جاهز ومستعد في كل وقت لحمايتها من الانهيار. لكن هذه الحجّة تسقط أيضًا عندما يجد المجنّد أن كل وظيفته الوقوف في منفذ بيع تابع للقوّات المسلّحة ليبيع السلع الغذائية للمواطنين، أو يجد نفسه يقدّم المشروبات والأطعمة في قاعة أفراح تابعه للقوات المسلّحة، كما يؤكّد المجند (أ. هـ).


أساليب أخرى
يقول الباحث خالد فهمي إن والي مصر وجّه ضبّاطهُ لجمع المجنّدين باستخدام الدين والنعرة الطائفية في ترغيب الفلاحين في اﻻلتحاق بالجيش، ففي خطابٍ أرسله لابنه إبراهيم قال فيه: "يُمكن تعيين بعض الوعّاظ والفقهاء الذين يجب أن يقنعوا الفلاحين بأنها (الخدمة العسكرية) ليست كالسُّخرَة، ونستطيع بالمقابل أن نذكرهم بأن الفرنسيين استطاعوا بسهولة (حين كانوا في مصر) أن يجمعوا اﻷقباط للخدمة في جيشهم بسبب تلهفهم على خدمة عقيدتهم، فإذا كان هذا حال اﻷقباط فلا شك أن حال المسلمين سيكون أفضل، فقلوبهم تمتلئ بالتقوى والحماس للدفاع عن الدين".

ولم يقتصر استخدام الدين على محاوﻻت إقناع المصريين باﻻلتحاق بالخدمة العسكرية، فاستخدم في كل وقت وحين؛ في التّدريبات، حيث أمر الباشا بقراءة الفاتحة كل صباح قبل التدريب، وفي المعارك، حيث يوصف المقاتلون المصريون بـ "المؤمنين"، ويُشار إلى اﻷعداء بصفة "الكفار"، وعندما يسيء الجنود السّلوك يُذكّرهم الباشا بأن الجهاد واجبٌ دينيٌ، مستشهدًا بآيات قرآنية تشدّد على أهمّية النظام وطاعة أولياء اﻷمر.

استخدام الدين للترغيب في آداء الخدمة العسكرية، أو للترهيب من التهرّب منها، أحد الأساليب التي ما زال معمولًا بها إلى الآن في الجيش المصري، فبحسب المجند (م. ع)، فإن هناك شيوخاً من الأزهر يزورون المجنّدين في معسكراتهم بشكل شبه دوري لتذكيرهم بأهمّية الرباط والجهاد في سبيل الله، وتحذيرهم من أن "يولوا أدبارهم"، وضرورة طاعة القادة وتنفيذ الأوامر.


نفقات إضافية
لم يعد هناك ما يدفع الشباب إلى تأدية الخدمة العسكرية الإجبارية سوى الخوف مما سيترتّب عليه عدم تأديتهم لها. الخوف من الحرمان من حقهم في حرية التنقّل والسفر، والخوف من حرمانهم من حقّهم في الحصول على وظيفة، والخوف من إلقاء القبض عليهم ومحاكمتهم عسكريًا.

المساهمون