قبل نحو 44 عاماً، عندما اتخذت قرارها بالتوقّف عن التدريس والتفرّغ لعائلة مستقبليّة تؤسسها مع شريك حياتها، لم تتوقّع أنها ستعود في يوم لتجلس في الجهة الأخرى من الصف، فتكون من جديد تلك التلميذة المتلهفة إلى تلقّي العلم.
هي اتخذت قرارها، إذ لم يشأ شريكها أن تُضاف هموم العمل إلى مسؤولية البيت والأولاد التي تلقى على عاتقها. ومن جهتها، قرأت أن الأطفال بحاجة إلى أمهم لتعتني بهم، وهم صغار. وهذا ما كان.
ربّت الخالة ناديا يحفوفي أولادها الأربعة (صبيّ وثلاث بنات)، وقد حرصت على تأمين الأفضل لهم. كبر الأولاد، ومضى كل واحد منهم في مستقبله المهني، وأسس ثلاثة منهم عائلاتهم الصغيرة، وأصبحت هي جدّة لخمسة أحفاد.
ذهب كل واحد في طريقه وتغرّب من تغرّب، فوجدت نفسها وحيدة مع شريك حياتها، ومع شتولها وأزهارها. "النباتات مثل الطفل. تهتمين بها، فتتجاوب معك. تغسلينها، فتنظف. تسقينها، فتفرفح (تنتعش)".
لم تكتفِ. كان لا بدّ من أن تشغل نفسها. كان لا بدّ من أن تلبّي حاجتها من العلم. "عندما كان الأولاد يكبرون، رغبت في مجاراتهم في التطوّر. لم أكن أرغب أن أظهر كجاهلة أمامهم". ولأنه زمن التكنولوجيا، التحقت قبل بضع سنوات بدورة كمبيوتر في أحد المراكز في مدينتها بعلبك (شمال شرق لبنان). "كانت الدورة باللغة الإنجليزيّة، وكنت أعمد إلى ترجمة المصطلحات لفهمها. لكنني اكتشفت أن الأمر لن ينجح، فلجأت إلى دورة في الإنجليزيّة. وصرت أقرأ وأتصل بالبنات وأهجّي لهنّ الكلمات، ليعلّمنني كيفيّة لفظها". لم ترضَ عن النتيجة، فعادت لتلتحق، في وقت لاحق، بدورة كومبيوتر باللغة العربيّة هذه المرّة.
الخالة ناديا التي تبلغ من العمر اليوم 67 عاماً، كانت التلميذة الأكبر سناً في تلك الدورة وفي دورات أخرى كثيرة. كانت زميلاتها يتعجّبن عند رؤيتها، "هنّ كنّ من جيل أولادي وأصغر سناً حتى". تضحك لتخفي خجلها المعتاد، وهي تخبر أن إحدى المدرّبات كانت تقول لهنّ: "ناديا أنشط منكنّ". بالنسبة إليها، كانت الأمور واضحة.. "إما أنتج وأتابع الدورة، وإلا لماذا أضيّع وقتي وأستفيد من فرصة قد تكون أخرى أحقّ مني بها".
هي تحاول، دائماً، الإثبات بأن "العلم ليس حكراً على الصغار. الكبير قادر أيضاً، على التقدّم والتعلّم والإنجاز. قد يشجّع ذلك غيري". ويبقى المهمّ بالنسبة إليها "الإرادة".
بين دورتَي المعلوماتيّة، فتح مركز "داري" للتعبير الحرّ أبوابه في بعلبك في عام 2008، بمبادرة من المنظمة الدولية للهجرة، لمساعدة الأهالي على تفريغ ضغوط حرب يوليو/تموز 2006 من خلال نشاطات تعليميّة وترفيهيّة وفنيّة وثقافيّة، لا سيّما الدراما. في البدء تردّدت الخالة ناديا، بالالتحاق بالنشاطات. لكنها عادت وتشجّعت، خصوصاً عندما عرفت بدورة العلاج بالدراما مع المتخصّصة في هذا المجال زينة دكاش. "كنت قد قرأت في إحدى المجلات عن العلاج بالدراما الذي تعدّه دكاش، واستغربت ذلك. أعرف القليل عن الأمراض النفسيّة، لأنني أقرأ. أيضاً، أعرف أن المرء عندما يكون منزعجاً يحكي لصديقه. ماذا يفعل الأخير؟ لا شيء. الأمر نفسه مع زينة. هي لا تعطي حلولاً. المهم هو التفريغ".
تعلّمت الكثير، وبقيت تشارك في جلسات حواريّة تثقيفيّة وتتابع دورات مختلفة، "حتى أنني تعلّمت العزف على العود. كان ترفيهاً أكثر مما هو إتقان. وأبو علي (شريك حياتها) كان دائماً يشجّعني على الالتحاق بالدورات والمشاركة في النشاطات. وأنا كنت دائماً أستشيره حول المشاريع وما أكتب".
الخالة ناديا التي لا يمكن إلا ملاحظة خجلها، تقرّ "لطالما كنت خجولة. أما اليوم، فأستطيع القول إن خجلي انكسر لدرجة كبيرة". لكنها ما زالت تمتنع مثلاً، عن "التفوّه بكلمات أجنبيّة لا ألفظها صح. أسكت".
قبل أيام، أنهت الخالة ناديا دورة في المحاسبة. هي فخورة بما أنجزت حتى الآن. تضحك وهي تشير إلى أن "الأستاذ كان أصغر من أولادي"، لكن شعارها في الحياة هو ضرورة عدم التوقّف عند ما نبلغه، "فالمعرفة غير محدودة. ولا بدّ للمرء من أن يطوّر نفسه". هي تحاول "الاستفادة بقدر المستطاع مما يتوفّر في المنطقة عنا".
في انطلاقتها الجديدة، لم تنقطع عن حياتها التي اعتادتها. ما زال بيتها الذي رسمته ببساطة وبذوق، مملكتها. وهي ما زالت تحضّر المونة وتقرأ مجلاتها وتنقّل شتولها وتلجأ أحياناً إلى ماكينة الخياطة. لكنها قد تلتهي قليلاً، بدردشة عبر الشبكة العنكبوتيّة مع أولادها وأحفادها المغتربين. مذ تمكّنت من الكومبيوتر، فتحت حساباً لها على موقع "فيسبوك" للتواصل الاجتماعي، وكذلك على موقع "سكايب".
قبل الالتحاق بدورة جديدة عند توفّرها، تتابع الخالة ناديا صفوف رياضة وتمشي مع صديقاتها في الصباح. "الجسد كما العقل، بحاجة إلى تنشيط دائم".
اقرأ أيضاً: الحاجة فاطمة تحترف العالم الافتراضي