31 أكتوبر 2024
الحل السوري بالتقسيط
أظهرت الولايات المتحدة عدم اكتراث متكرّر حيال ما يجري في شمال غرب سورية، على خلاف الحال في الشمال الشرقي. هذا يرسم فارقاً مهماً بين غرب الفرات وشرقه، فيما يتعلق بآفاق الحل في سورية واحتمالاته. يتجسّد في أنه يمكن لثلاثي أستانة (إيران، تركيا، روسيا)، أن يتفاهموا على حلٍّ في غرب الفرات، وأن ينفّذوا هذا التفاهم إذا كان جدّياً، ولكن لا يمكنهم فعل الشيء نفسه شرق الفرات، بسبب الوجود والاهتمام الأميركي في المنطقة هناك. وعلى اعتبار أن أميركا لا تشارك في مسار أستانة، فإن وجودها في منطقة شرق الفرات يعني أن ثلاثي أستانة لا يستطيع أن يفتي فيما يخص تلك المنطقة التي تبقى بعيدةً عن متناوله ما بقيت أميركا فيها.
على هذا، تبدو مشكلة إدلب أسهل وأقرب إلى الحل من مشكلة شرق الفرات. يمكن لتوافق تركي روسي أن يضع العقدة الإدلبية على سكة الحل. هذا التوافق في المتناول، لأنه لم تعد لتركيا هواجس أمنية في هذه المنطقة، بعد أن نفذت تغييراً حاسماً في التركيبة السكانية في منطقة عفرين على حساب الوجود الكردي فيها. كما أن الاتفاق مع روسيا يمكن أن يجنّبها ما تتخوّف منه، نقصد موجة نزوحٍ جديدة. وليس من الصعب على تركيا فرض ما تريد على الفصائل المسيطرة في الشمال الغربي من سورية. هذا فضلاً عن أن مثل هذا التوافق يشكل بطبيعة الحال مقدّمة ضرورية لتخفيف العبء عن تركيا بعودة نسبة من اللاجئين السوريين إلى مناطقهم التي هجروها جرّاء القصف الذي تتعرّض له هذه المناطق.
الراجح، وفق هذا التصوّر، أن يكون الحل في إدلب تصالحياً أكثر منه عسكرياً، نظراً إلى الطبيعة البراغماتية للقوة "المعارضة" الأبرز هناك، جبهة النصرة، وإلى أن من شأن تفاهم روسي تركي جدّي أن لا يترك أمام الفصائل مجتمعةً سوى خيار القبول والتكيّف أو الانتحار. والتفاهم مع
روسيا هو، بطبيعة الحال، جسرٌ منحدر يوصل إلى التفاهم التالي مع نظام الأسد. غير أن هذا التصوّر لا يستبعد، مع ذلك، الحشد العسكري من النظام وحلفائه، ولا يستبعد احتمال أن ينفذ هؤلاء هجوما ناريا كثيفا للترهيب، كما لا يستبعد اندلاع صراعاتٍ داخلية بين الفصائل على محورين: قبول أو رفض التفاهم/ الحل، وسعي كل فصيل إلى توسيع مجال سيطرته لتثقيل وزن دخوله في الحل. ومن المرجّح أن يكون لجبهة النصرة دور البطولة في هذا الصراع الفصائلي المتوقع، ولا سيما أنها ادخرت عديدها وعتادها في الشهور الماضية استعداداً لليوم الذي يمكنها فيه أن تخرج من دائرة النبذ الدولي، وأن تتحوّل إلى جزء من الحل، بما ينسجم مع توافق الأطراف المقرّرة فيه.
أما شرق الفرات فيبدو غائباً عن مباحثات جماعة أستانة، وكأنه خارج سورية، وقد جاء تشكيل اللجنة الدستورية أخيرا، تأكيداً على استبعاد الحل المتعلق بهذا الجزء أو تأجيله. تشكيل لجنة الدستور بالصورة التي تم عليها يعني تراجع الجميع أمام نظام الأسد والقوى الداعمة. كما أن الإعلان الاحتفالي عن تشكيل اللجنة المذكورة من دون وجود تمثيل فيها لمجلس سورية الديموقراطي (مسد) التي تسيطر على ما يقارب ثلث مساحة سورية، وتحوز شعبية غير قليلة في وسطها، يشير إلى أن ثلاثي أستانة، والأمم المتحدة أيضاً، لا يقترحون الحل السوري الشامل، بل يسيرون على مبدأ الحل بالتقسيط.
عجز مسار أستانة، وعجزت المسارات الأخرى، كما عجزت الأمم المتحدة، عن إيجاد حل للسؤال: كيف يمكن تخليص العقدة الكردية السورية من العقدة الكردية التركية، وكيف يمكن منع هذه من فرض انعكاساتها على الموضوع السوري؟ أمام هذا العجز، كانت النتيجة إغماض العين عن هذه العقدة، وتركها لزمن قادم مجهول، لتبقى منطقة شرق الفرات شأناً أميركياً بالدرجة الأولى، تمارس فيه أميركا دور الحكم القوي والمقرّر بين جهات سياسية وعسكرية كردية ترى في تركيا العدو الأول، ودولة تركية تمارس عدوانيتها على هذه الجهات، بوصفها امتداداً لمشكلتها الداخلية مع كرد تركيا.
ولا شك أن استبعاد "مسد" عن اللجنة الدستورية يزيد من هامشيتها ومن لا جدواها. من دون أن يعني هذا أن إشراك "مسد" سوف يغير كثيراً من المعادلة، فالأمر الذي ينبغي التأكيد عليه هو أن كل المسارات والحلول المقترحة سوف تتشابه في فشلها، طالما أنها لا تتجه إلى حل، أو على الأقل البدء في حل، العقدة الأساسية المتمثلة في سد طريق المشاركة الفعلية في الحياة السياسية، وطالما استمر الإصرار على تقسيم الشعب السوري إلى وطنيين وخونة، هذا التقسيم المدمّر الذي أسس له وصانه نظام الأسد على طول الخط، من شأنه أن يستولد تقسيماً مقابلاً ومعاكساً، ما يحيل الحياة السياسية في سورية إلى حربٍ أهليةٍ مستمرةٍ ونفيٍ متبادلٍ لا نهاية له.
من الطبيعي أن يسأل المتابع عن معنى الدستور الذي يُمكن أن تنتجه اللجنة الدستورية المذكورة، ليس فقط من الناحية التي كثر الحديث عنها، والمتعلقة بأن المشكلة السورية ليست مشكلة كتابة دستور، بل مسألة تعليق الدستور، أي مشكلة وجود سلطةٍ تستعمر الدولة وتحتكرها وتصادر الحياة السياسية، وتحيل الدستور إلى حبر على ورق. مشكلتنا في القوة لا في القول. أو بطريقة أخرى، مشكلتنا هي في قول القوة لا في قوة القول. ما لم يقترن الدستور بقوة تطبيقية لن يكون له قيمة سياسية تذكر.
هناك اليوم ناحية أخرى تجرّد اللجنة الدستورية من المعنى، تتعلق بالمجال الجغرافي السياسي
الذي يعترف بالدستور. بكلام آخر، ما هي المساحة التي يكون للدستور المزمع ولاية عليها في سورية؟ المجال الجغرافي السياسي السوري موزّع بين ثلاثة محاور قوة غير سورية، هي تركيا وأميركا وروسيا مع إيران، الأمر الذي يجعل من القوى السورية مجرّد توابع لهذه المحاور غير المتوافقة. إذا كان يمكن لتركيا أن تتوافق مع روسيا حول غرب الفرات، فمن غير المرجّح توافقهما فيما يخص شرق الفرات، هذا يقول إن من شأن صراع هذه المحاور أن يشل فاعلية أي دستور سوري مهما يكن.
ينتهي ما سبق إلى نتيجة واحدة، تقول إن عناصر الحل السوري الشامل غير متوفرة، وإن ما يجري هو تقسيط للحل، وهو فوق ذلك تقسيطٌ لا يحمل نتائج مهمة، والرابح الأكبر فيه هو نظام الأسد الذي لا يهمه سوى الاستمرار في السيطرة على ما يستطيع من سورية، وتفادي المحاسبة، وهذا ما يناله فعلياً من تشكيل اللجنة الدستورية التي تُعطيه صورة المشارك في الحل من جهة، وتفتح له، من جهة ثانية، أفقاً زمنياً لا ينتهي، بحسب تصريح وزير خارجية النظام، وليد المعلم، الذي قال إنهم لا يقبلون جدولاً زمنياً للجنة الدستورية. على هذا، سوف تهنأ هذه اللجنة بجلسات، نعلم أنها تبدأ في جنيف في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، ولكن لا أحد يعلم متى وأين تنتهي.
الراجح، وفق هذا التصوّر، أن يكون الحل في إدلب تصالحياً أكثر منه عسكرياً، نظراً إلى الطبيعة البراغماتية للقوة "المعارضة" الأبرز هناك، جبهة النصرة، وإلى أن من شأن تفاهم روسي تركي جدّي أن لا يترك أمام الفصائل مجتمعةً سوى خيار القبول والتكيّف أو الانتحار. والتفاهم مع
أما شرق الفرات فيبدو غائباً عن مباحثات جماعة أستانة، وكأنه خارج سورية، وقد جاء تشكيل اللجنة الدستورية أخيرا، تأكيداً على استبعاد الحل المتعلق بهذا الجزء أو تأجيله. تشكيل لجنة الدستور بالصورة التي تم عليها يعني تراجع الجميع أمام نظام الأسد والقوى الداعمة. كما أن الإعلان الاحتفالي عن تشكيل اللجنة المذكورة من دون وجود تمثيل فيها لمجلس سورية الديموقراطي (مسد) التي تسيطر على ما يقارب ثلث مساحة سورية، وتحوز شعبية غير قليلة في وسطها، يشير إلى أن ثلاثي أستانة، والأمم المتحدة أيضاً، لا يقترحون الحل السوري الشامل، بل يسيرون على مبدأ الحل بالتقسيط.
عجز مسار أستانة، وعجزت المسارات الأخرى، كما عجزت الأمم المتحدة، عن إيجاد حل للسؤال: كيف يمكن تخليص العقدة الكردية السورية من العقدة الكردية التركية، وكيف يمكن منع هذه من فرض انعكاساتها على الموضوع السوري؟ أمام هذا العجز، كانت النتيجة إغماض العين عن هذه العقدة، وتركها لزمن قادم مجهول، لتبقى منطقة شرق الفرات شأناً أميركياً بالدرجة الأولى، تمارس فيه أميركا دور الحكم القوي والمقرّر بين جهات سياسية وعسكرية كردية ترى في تركيا العدو الأول، ودولة تركية تمارس عدوانيتها على هذه الجهات، بوصفها امتداداً لمشكلتها الداخلية مع كرد تركيا.
ولا شك أن استبعاد "مسد" عن اللجنة الدستورية يزيد من هامشيتها ومن لا جدواها. من دون أن يعني هذا أن إشراك "مسد" سوف يغير كثيراً من المعادلة، فالأمر الذي ينبغي التأكيد عليه هو أن كل المسارات والحلول المقترحة سوف تتشابه في فشلها، طالما أنها لا تتجه إلى حل، أو على الأقل البدء في حل، العقدة الأساسية المتمثلة في سد طريق المشاركة الفعلية في الحياة السياسية، وطالما استمر الإصرار على تقسيم الشعب السوري إلى وطنيين وخونة، هذا التقسيم المدمّر الذي أسس له وصانه نظام الأسد على طول الخط، من شأنه أن يستولد تقسيماً مقابلاً ومعاكساً، ما يحيل الحياة السياسية في سورية إلى حربٍ أهليةٍ مستمرةٍ ونفيٍ متبادلٍ لا نهاية له.
من الطبيعي أن يسأل المتابع عن معنى الدستور الذي يُمكن أن تنتجه اللجنة الدستورية المذكورة، ليس فقط من الناحية التي كثر الحديث عنها، والمتعلقة بأن المشكلة السورية ليست مشكلة كتابة دستور، بل مسألة تعليق الدستور، أي مشكلة وجود سلطةٍ تستعمر الدولة وتحتكرها وتصادر الحياة السياسية، وتحيل الدستور إلى حبر على ورق. مشكلتنا في القوة لا في القول. أو بطريقة أخرى، مشكلتنا هي في قول القوة لا في قوة القول. ما لم يقترن الدستور بقوة تطبيقية لن يكون له قيمة سياسية تذكر.
هناك اليوم ناحية أخرى تجرّد اللجنة الدستورية من المعنى، تتعلق بالمجال الجغرافي السياسي
ينتهي ما سبق إلى نتيجة واحدة، تقول إن عناصر الحل السوري الشامل غير متوفرة، وإن ما يجري هو تقسيط للحل، وهو فوق ذلك تقسيطٌ لا يحمل نتائج مهمة، والرابح الأكبر فيه هو نظام الأسد الذي لا يهمه سوى الاستمرار في السيطرة على ما يستطيع من سورية، وتفادي المحاسبة، وهذا ما يناله فعلياً من تشكيل اللجنة الدستورية التي تُعطيه صورة المشارك في الحل من جهة، وتفتح له، من جهة ثانية، أفقاً زمنياً لا ينتهي، بحسب تصريح وزير خارجية النظام، وليد المعلم، الذي قال إنهم لا يقبلون جدولاً زمنياً للجنة الدستورية. على هذا، سوف تهنأ هذه اللجنة بجلسات، نعلم أنها تبدأ في جنيف في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، ولكن لا أحد يعلم متى وأين تنتهي.