فجأة ومن دون مقدمات، توجه مفتي تونس، الشيخ عثمان بطيخ، إلى التونسيين ببيان يحمل توقيعه، دعاهم فيه إلى "ترك الاحتجاجات والاعتصامات"، داعياً المحتجين إلى "الإقبال على العمل والدراسة، والاجتهاد في تحسين مردودهم وتطوير مجهودهم، ولا سبيل إلى ذلك إلا بترك الاحتجاجات العشوائية والاعتصامات المعطلة للعمل والإنتاج، وسدّ الطرق والإضرار بالملك العام". وذكر بيان دار الافتاء أن "تونس اليوم على مفترق طرق، فإما أن نخلص الجهد لإنقاذها كل على قدر مسؤوليته، أو لا".
لم يمرّ بيان بطيخ بسلام، إذ رد عليه النقابيون بكل قوة، ورأوا في دعوة المفتي "تحريما لأشكال الاحتجاج الاجتماعي، في بلد قامت فيه ثورة بسبب الحيف الاجتماعي". وعلق المتحدث باسم الاتحاد العام التونسي للشغل سامي الطاهري على ذلك بقوله إن "مفتي الجمهورية يحرّم اليوم وتحت الطلب الاحتجاجات العشوائية، وغداً لا نستغرب تحريم أي نية احتجاجية".
لم تقتصر الردود على النقابيين، بل دعا بعض السياسيين من المعارضة إلى عدم التدخل في الشأن السياسي، والاكتفاء بالمجال الديني. وردّت أيضاً بعض منظمات المجتمع المدني بلهجة حادة، مثل المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، الذي استنكر ما اعتبره "تدخلاً لمؤسسة الإفتاء في مجال يتجاوز اختصاصاتها، وذلك بغاية تبرير سياسة رسمية تهدف إلى تجريم التحركات الاجتماعية".
وأشار المركز إلى أن "هذا الموقف يذكر التونسيين بالتصريح المخزي لنفس هذا المفتي، في 8 يناير/كانون الثاني 2011، في خضمّ تصاعد التحركات الشعبية، التي دعا فيها بالحرف الواحد إلى عدم الصلاة على المنتحر (محمد البوعزيزي)، استنكاراً لما صدر عنه وزجراً لغيره". وهو وصفه المنتدى بـ "الاعتداء الصارخ على مشاعر كل التونسيين وعائلة البوعزيزي".
كما حذّر المنتدى من "خطورة ما صدر عن المفتي، بحجة أن هذا البلاغ من شأنه توظيف السلطة الدينية للمفتي، في مجال الحكم على التحركات الاجتماعية، وعلى نشطاء المنظمات والجمعيات والحملات المدافعة عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والمناضلة من أجل العدالة والمتصدية لعودة الفساد، كما يهدد بدفع التونسيين إلى الاحتقان".
وبلغ الأمر بهذا المنتدى حدّ دعوة رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي إلى "تحمّل مسؤولياته في حماية الدستور، الضامن لمدنية الدولة وللحريات المدنية والسياسية، وأيضاً مساءلة مفتي الجمهورية عن دوافع ومقاصد هذا البلاغ، خصوصاً أن رئيس الجمهورية بموجب الفصل 78 من الدستور هو من يعيّن المفتي ويعفيه".
أمام هذه الحملة المضادة، اضطر المفتي إلى تليين موقفه بالقول إن "ما ذكره ليس فتوى تحرم أو تحلّل أمراً ما، ولكنه لا يعدو أن يكون رأياً أبداه تفاعلاً مع الأحداث والأوضاع العامة بالبلاد من باب الشعور بالمسؤولية الوطنية". وأشار إلى أن "هدفه هو تقديم نصيحة بمبادرة شخصية منه، لا استجابة لطلب صادر عن أي طرف كان". وظهر ذلك وكأنه يعفي الحكومة من الهجوم المضاد.
مع العلم أن موقف المفتي لم يولد من فراغ، بل في سياق رغبة الحكومة في مواجهة موجة الاحتجاجات غير المنظمة في مختلف الولايات التونسية. وهي الظاهرة التي تطرّق إليها رئيس الحكومة يوسف الشاهد في خطابه، الذي ألقاه أمام البرلمان عند التصويت على حكومته. وحذّر يومها من "مخاطر تحوّل الحرية إلى فوضى"، في إشارة منه إلى ظاهرة الإضرابات والاعتصامات غير القانونية. كما أن المتحدث باسم الحكومة، القيادي في الحزب الجمهوري، إياد الدهماني، قد نوّه أخيراً، إلى أن "الحكومة ستلجأ إلى الحوار قبل أي شيء آخر، ثم ستحاسب كل من سيعطل الإنتاج".
من جهة أخرى، أصبحت ظاهرة تعطيل الإنتاج بمختلف الوسائل، بما في ذلك الإضرابات القانونية والمدعومة من قبل النقابات مصدر قلق شديد لرجال الأعمال. وهو ما دفع برئيسة اتحاد الصناعة والتجارة وداد بوشماوي، إلى تنظيم جلسة مغلقة مع عدد من الإعلاميين، بهدف إشعارهم بخطورة الوضع الاقتصادي نتيجة موجة الإضرابات الجديدة، التي ستؤدي إلى إفلاس المؤسسات والتسبب في حصول انهيار اقتصادي محتمل، وفقاً لرأيها. ما يدلّ على أن رأي المفتي منسجم مع التوجه الرسمي للحكومة ومتناغم مع مطالب رجال الأعمال. كما أن جزءاً هاماً من الرأي العام، يؤيد ما جاء على لسان المفتي في رد فعل على اتساع رقعة الاحتجاجات الاجتماعية.
أما في شأن المواقف الحكومية، فقد اكتفى وزير الشؤون الاجتماعية، محمد الطرابلسي، القريب من اتحاد الشغل بالقول إن "ما عبّر عنه المفتي هو رأيه الشخصي، وأن الدستور قد ضمن الحق في الإضراب وحق الاحتجاج السلمي، طالما تم الالتزام بالضوابط القانونية"، وهو ما أشار إليه المفتي ولكن بصيغة مختلفة وبعيدة عن التهديد والوعيد.
وبالنسبة لحركة النهضة التي سبق أن عانت كثيراً من تصاعد الحراك الاحتجاجي في حكومتيها الأولى والثانية، فقد فضّلت اليوم عدم إظهار مساندتها لمفتي الجمهورية، ولزمت بدورها الصمت حتى تتجنّب الدخول في مواجهة مع النقابات من جهة ومع خصومها السياسيين من جهة أخرى، وإن كان رئيس الحركة راشد الغنوشي قد سبق له أن انتقد الاحتجاج غير المنظم، ودعا إلى هدنة اجتماعية.
هكذا يستمر البحث في تونس عن كيفية الحدّ من التداخل بين الديني والسياسي. وهي إشكالية لا تتعلق فقط بضبط حدود لخطاب الإسلاميين، وإنما الإشكال مطروح أيضاً داخل أجهزة الدولة، باعتبار أن الافتاء لا يزال في تونس وفي غيرها من دول المنطقة مرتبطا كثيراً بالنظام السياسي وباختيارات الحزب أو الهيئات الحاكمة. لكن الملحوظ أن الأحزاب الحاكمة حالياً قد تركت المفتي في وضع التسلل وجعلته يتعرض وحده للعاصفة.