الحقيقة والوهم

29 ديسمبر 2014
على الكورنيش نفسه... (حسين بيضون)
+ الخط -

مرّ العام سريعاً مثل وهم. مرّ غريباً في الضوضاء التي تحكمنا. ضحكنا وبكينا وغرقنا في الخوف والأوهام والملل. ملل دفع بنا إلى البحث عن حيوات أخرى تحرّرنا ممّا نعيشه. حيوات افتراضية. حيوات أبعد ما تكون عن الحقيقة. انغمسنا فيها هرباً من حياتنا الأولى، الحقيقية.

تدفعنا الحياة الافتراضية نحو صور ليست حقيقية. الصور المثالية التي نحب أن نقدمها عن أنفسنا من دون أن تكون بالضرورة صحيحة. صرنا نلاحق الناس على الصفحات الافتراضية حتى نسينا أنفسنا. نسينا أن نستمتع بالأوقات والأماكن ومع الآخرين. صار الفضول هاجساً يقضم أصابعنا وعيوننا. لم ننتبه أننا أدمنّا. هذا إدمان لعالم ليس حقيقياً ولن يكون.

ترى هل هي الحياة الأخرى التي كتب عنها ميلان كونديرا يوماً؟

***

نشر "البوست" على "فيسبوك". شاركه إيّاه عشرة أصدقاء على صفحاتهم. وصلته عشرات "اللايكات". قرأه المئات. يدعو "البوست" إلى التبرّع بوحدة دم في أحد المستشفيات لمريض يحتاجها بشكل عاجل لعملية قلب مفتوح. من بين المشاركين والقراء وأصحاب اللايكات وكل مَن اطلّع على الخبر لم يصل متطوع واحد إلى المستشفى.

وما زال المريض ينتظر وحدة الدم في المستشفى.

***

جلسوا أربعة أصدقاء على الطاولة في المقهى الأميركي الحديث، ليحتسوا القهوة معاً. كل اثنين متقابلان. لكنهم، وبعد وقت قليل، حملوا أجهزتهم الخلوية وصاروا يبحثون فيها. لم يتفوّهوا إلا بكلمات قليلة خلال اللقاء. معظمها سطحي وسخيف. ذكّروا بعضهم أكثر بما كانوا يتبادلونه على "فيسبوك" ونسوا كل شيء آخر.

كان قد مرّ وقت طويل وهم يحضّرون لهذا اللقاء على الصفحات الافتراضية. وعندما حصل ظلّوا منشغلين هناك، في تلك الصفحات.

كأن لقاءهم لم يتمّ. كأنهم لم يجتمعوا.

***

في الصباح الباكر جداً يحثّ الرياضيون الخطى على الكورنيش البحري لبيروت. معظم هؤلاء من المتقدمين في السن الذين تخلّوا عن دفء الفراش وارتضوا الهرولة مع صقيع كانونيّ بحثاً عن شيء ما. لعلّه عمر أطول، أو صحّة بدأت تتدحرج نحو الوراء، أو هواء نظيف تفتقده المدينة عندما تصحو سياراتها، أو ساعات الصباح الهادئة لمَن يحبونها.

مشوا أفراداً وجماعات. الذين أتوا كمجموعة كانوا يمشون جنباً إلى جنب يدردشون مع بعضهم بعضاً ويضحكون.

كان حديثهم وضحكاتهم حقيقية.

***

على الكورنيش نفسه، في وقت آخر، جلس شاب وفتاة. شربا قهوة ساخنة وتأمّلا طويلاً في البحر. كانا وحدهما. تحدثا، وابتسما، وتعانقا. كلّ مَن مرّ بهما وضع "لايكاً" في قلبه وتابع طريقه.
دلالات
المساهمون