الحصان والوجه
ربما ليس هناك شعر أفرد للخيل، في مدونته الكلاسيكية، أكثر مما أفرد الشعر العربي. الخيل أولاً ثم الناقة. قد تمرُّ وحوشٌ وكواسر في هذه المدونة المتراكمة قرناً بعد قرن (من دون تغيرات كبرى تذكر!)، غير أنها لا تناهز ذكر الخيل والإبل. للخيل موقعٌ يكاد يكون مقدساً في المأثور العربي. انظروا هذه الأحاديث النبوية في الخيل: الخيل ثلاثة: ففرس للرحمن وفرس للشيطان وفرس للإنسان، فأما فرس الرحمن فالذي يرتبط في سبيل الله، فعلفه وروثه وبوله في ميزانه، وأما فرس الشيطان فالذي يقامر أو يراهن عليه، وأما فرس الإنسان فالفرس يرتبطها الإنسان، يلتمس بطنها، فهي سترٌ من الفقر (ابن مسعود). الإبل عزٌّ لأهلها والغنم بركةٌ والخير معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة (عروة البارقي). عاتبوا الخيل فإنها تعتب، وروِّضوها للحرب والركوب، فإنها تتأدب وتقبل العتاب (أبو أمامة).
ويوصلنا الحديث الأخير (بصرف النظر عن مدى صحّته، فهو يظل محتفظاً بمرآة زمنه) إلى التكلّم مع الخيل. مناجاتها. بثّها اللواعج، أو الاستشهاد بها. الإبل عند العرب للرحلة، ولها ما للخيل من مراتب وأنساب، وفيها، كما في الخيل، شعر كثير. لكني أتحدث هناك عن الخيل، لسبب سأبينه لاحقاً. ما يخطر في بالي من الاستشهاد بالخيل، وتمني لو كانت تحسن النطق مثل الإنسان قول عنترة يصف واقعة حربية:
يدعون عنترَ والرماحُ كأنَّها / أشطانُ بئرٍ في لبانِ الأدهمِ
ما زلتُ أرميهم بثُغْرةِ نحرِه/ ولبانه حتى تسرّبلَ بالدمِ
فازورَّ من وقع القنا بلبانه/ وشكى إليَّ بعَبرٍة وتحَمْحُمِ
لو كان يدري ما المحاورةُ اشتكى/ ولكانَ لو علمَ الكلام مكلمي.
هنا عنترة يطلب من حصانه، الذي شهد الواقعة، وظلت الرماح تنهل منه، كما لو أنها حبال بئر (أشطان بئر)، أن يتكلم، على الرغم من أنه اشتكى له، فعلاً، بلسانه، ألا وهي "الحمحمة"، وليس بلسانٍ لا يملكه. لو كان يملك هذا اللسان، لكان أخبر عنترة بما هو عليه من جراح وجهد وألم. تعود إلي هذه الأبيات من معلقة الشاعر الأسطوري، الذي اختبر، قبل ألفيتين تقريباً، ألَّا جديد يمكن للشعراء أن يقولوه، من مقعد الدرس. ويبدو أن مقعد درسنا كان أفضل من مقعد درس اليوم الذي لا يخرِّج قارئين، ناهيك عن كاتبين. ليس عنترة وحيداً في مخاطبة حصانه. فليس هناك شاعر (جاهلي تحديداً) لم يفعل، أو لم يتعامل مع حصانه كأنه أخ أو صديق، لكنَّ أبيات عنترة التصقت بذاكرتي أكثر من غيرها. فلطالما تصوّرت حصانه وهو ينزف دماً، ويحاول تفادي المزيد من الرماح والسيوف التي تتلامع في فضاء المعركة المغبرّ.
ولطالما أثَّر بي، على نحو خاص، قوله "لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ولكانَ لو علم الكلامَ مكلّمي". الحصان والفارس يتبادلان النظر والنجوى الصامتة، أو الناطقة بالحمحمة. وهذا ليس مجازاً على ما يبدو. فقد أكدت دراسة علمية بريطانية، قامت بها جامعة سسيكس، أنَّ الخيل تقرأ علامات وجه الإنسان، وتقوم بالرد عليها. وتشعر بما يمرُّ به من انفعالات عاطفية. فقد لاحظت الدراسة أن الخيل تنظر بطرف عينها اليسرى، عندما تشعر بغضب الشخص الذي أمامها. ولاحظت كذلك تسرّع دقات قلبها. كما أنها تفرِّق، حسب الدراسة، بين وجوه الناس العابسة والفرحة. وقد أبدت الخيول التي خضعت للدرس العلمي ردود فعل أقوى تجاه المشاعر السلبية التي تحسّها بمن حولها. وتفسر طالبةٌ منخرطةٌ في الدراسة هذا الأمر بأنه ردُّ فعل طبيعي حيال المخاطر. واضح أن الخيل طوَّرت، خلال علاقتها الطويلة بالانسان، إحساساً قوياً بالمخاطر.
كنا نظن أن صلة الإنسان بالخيل، عبر الشعر، ليست أكثر من مجازٍ أو وقفة تقليدية فارغة، أو رمز لشيء آخر، غير الحصان نفسه. ولكن، تبيَّن أن أسلافنا كانوا أكثر منا ارتباطاً بمحيطهم الطبيعي. كانت البريّة موجودة، والغزو والترحال ملازميْن لحركة العربي القديم. فمراقبة محيطه، وما يطرأ عليه من تغيرات، تنطوي على حياة وموت. لكنَّ الشعر تجاوز الحاجة والضرورة إلى الفن.