الحركة العمالية في الغرب... تحولات عن الجوهر

03 مايو 2018
تظاهرات عمالية في شيكاغو أول مايو الحالي (Getty)
+ الخط -

لم يكن الأول من مايو/ أيار (عيد عمال) لمنطقة جغرافية محددة، بل "اليوم العالمي" الذي تبناه مؤتمر عمالي في باريس عام 1889، لتنطلق بعدها بعام في شوارع أوروبا مسيرات ومظاهرات بالمناسبة ترفع مطلبين أساسيين: مساواة في الأجور والعمل لثماني ساعات فقط، وإن كان لمفردة "التضامن" وقعها الأساسي طيلة عقود.

ورغم الجدل حول أصل اليوم، سواء بما حققه عمال أستراليا في القرن التاسع عشر، بتحديد ساعات عمل، أو بالولايات المتحدة، فإن "يوم العمال العالمي"، الذي تبنته حتى أنظمة عسكرية، بعضها أطلق على نفسه صفة "اشتراكي وديمقراطي"، يراه اليوم البعض وقد "تراجع بتراجع وضوح الانتماء الطبقي".

في بعض الدول، وخصوصا شمال أوروبا، وإسكندنافيا على وجه التحديد، لا يمكن إنكار ما حققته الطبقة العاملة من انتصارات بفرض شروطها تحت شعار "التضامن". امتيازات نقابية عمالية أدت في نهاية المطاف إلى نشوء طبقة عمالية فرضت شروطها في سوق العمل، على مدى 150 سنة، أهمها الأجور وساعات عمل أقصر، يضاف إلى ذلك تحقيق "دولة الرفاهية".



أما قضية "التضامن" كواحدة من أهم الأدوات، حتى ثمانينيات القرن الماضي، والمتمثلة بـ"الإضراب التدريجي"، فهي قضية تبدو اليوم عرضة للتفكك والمساومات التي تصيب الطبقة العمالية في أكثر من مكان.

يحاجج البعض بأن مسار السنوات الأوروبية الأخيرة، خصوصا مع اندفاع فكرة العولمة، والليبرالية الجديدة، ونشوء فكر قومي متشدد كنتاج لمقدمات كثيرة، مقابل تراجع واضح للأحزاب التقليدية، الاجتماعية الديمقراطية تحديدا، يؤثر على اتجاهات طبقات المجتمعات الغربية، ويؤدي إلى نشوء ما يطلق عليه "طبيعة أخرى من التحديات".

اليوم، يبدو أن مجتمعات أوروبا، وخصوصا في ناحية سوق العمل، تعيش تحت وطأة "اتساع الفجوة" بين مكوناتها. بعض الاستطلاعات الأوروبية تذهب إلى استخلاصات أن القلق الأكبر يكمن في "تزايد غياب المساواة بين الفقراء والأغنياء"، وبحسب كل مجتمع، ففي الدنمارك والسويد لا تقل المخاوف عن 50%.

في استوكهولم تشير دراسة صادرة عن مركز الفكر والأبحاث "كاتولوس"، في فبراير/ شباط الماضي، إلى أن 8 من أصل 10 سويديين يعتقدون بأنهم يعيشون في مجتمع طبقي. هذه نسبة لم تشهدها مملكة تعتبر نموذجا في العدالة الاجتماعية وتقسيم الثروات.



غياب "العدالة الاجتماعية والمساواة" في مجتمعات أوروبا يقلق منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية وصندوق النقد الدولي، ومؤسسات أخرى. المسألة لا تتعلق بقلق في اتساع الفجوات الداخلية، بل حتى بين الدول. مشكلة اليونان، وأيسلندا، في وصول مجتمعات إلى حافة الإفلاس لا تغيب عن بال المهتمين بالتطورات السلبية لفترة تأثير العولمة.

يثور اليوم أيضا سجال قوي بين باحثين غربيين حول قدرة "الحركات والأحزاب القومية" على جذب الطبقة العاملة للتصويت لها. بل أبعد من ذلك، ترصد تقارير أوروبية شمالية في إبريل/ نيسان، أن "معارضة الاتحاد الأوروبي تتحول إلى اليمين القومي"، بعد أن كانت حركات شعبية ويسارية في الأغلب.

في برلين، التي شهدت غيابا لمفردة "الطبقات"، بعد سقوط الجدار الفاصل قبل نحو 30 سنة، ينمو اليوم تعريف هوياتي طبقي فيها. لكن، باتساع الفجوات وتقدم الخطاب القومي، كبديل عن القائم التقليدي لحل أزمات المجتمع، فالصورة ليست طبقية بالمعنى التقليدي.

وعلى نطاق أوسع في أوروبا، يبدو أن مسألة خروج بريطانيا، وصدمة انتخاب دونالد ترامب في أميركا، تشكلان صدمة للطبقات المتوسطة والعليا الأوروبية، أمام حقيقة أن "الطبقة العاملة"، المتحولة للتصويت بطريقة مختلفة، كخزان اقتراع يجب مغازلته.



ورغم أن الطبقة العاملة ما تزال موجودة، تصنيفاً على الأقل، بحسب معايير ترتبط بالدخل والثروات في واقع أوروبا اليوم، فإنه ليس ثمة شك بأن التحول اليميني الشعبوي في أوروبا، وخصوصا برفع شعار "معارضة النخبة"، يعد من المراهنات القوية للساسة الشعبويين، كما راهن ترامب على ما سمي "الطبقة العاملة البيضاء".

وتزداد الفجوة اتساعا مع الكشف عن تحكم نسب قليلة جدا من الناس بثروات المجتمعات، وهروب الأموال، وتهرب الشركات العابرة من دفع الضرائب نحو ملاذات ضريبية.

ثقافيا، في الجانب الطبقي للانتماء، مع نفوذ الفكر الليبرالي الجديد في أكثر من مكان، اندفع كثيرون في الطبقات العمالية، وحتى الأدنى، إلى تقليد هيمنة ثقافة الطبقة المتوسطة والنخب، ما أدى إلى جحيم آخر من الإفلاس والأزمات. وإن شكلت الأزمة الاقتصادية العالمية ناقوسا لكثيرين، فإن الوقوع في الفخ لم يحم الجميع، وعبر عن هذه الظاهرة بوضوح برنامجان شهيران: "فخ الرفاهية" و"الخاسر الأكبر" The Biggest Loser.

في الفترة التي كانت فيها "الطبقية" تعزز مكانتها في مجتمعات أوروبا، وبنظرة تحترم جهود الطبقة العاملة ونضالاتها، حتى أواسط ثمانينيات القرن الماضي، كانت في المقابل "التاتشرية" البريطانية، والدوغماتية الغربية، تحفران عميقا لتغيير دور تلك الطبقة، التي قامت الرفاهية الأوروبية، بعد الحرب العالمية الثانية، على أكتافها، وسُوقت في الغرب فكرة أن "الطبقية" عبارة عن "أوهام ماركسية"، وهي عبارة كررتها رئيسة وزراء بريطانيا الراحلة مارغريت تاتشر في أكثر من مناسبة في دفاعها عن "الحرب ضد الشيوعية".

لكن أيضا، بالنسبة لغربيين نقديين، شكل انتشار العولمة، والأزمات الاقتصادية الأولية في تسعينيات القرن الماضي، دافعا للنخب المتحكمة، وفي بعض الدول لا تتجاوز 4% من المتحكمين بالثروات القومية، لتعريض الطبقة العاملة لانتكاسة وتجريح وسخرية واحتقار لتشويه صورتها، وبالتالي يسهل عليها (النخب) ضرب مفهوم "دولة الرفاهية"، بالتصويب على المنتفعين منها، كما أشار بوضوح الكاتب الأميركي أوين جونز.



وليس غريبا أن يقرأ بعض اليسار الشمالي قضية استخدام الطبقات الفقيرة الأوروبية بوجه طبقات أفقر من المهاجرين كنوع من تفريغ مفهوم التضامن من محتواه، وسعي لقلب الطبقات ضد بعضها.

وبمراقبة المتغيرات الواضحة في مسار الحركة العمالية الأوروبية، يبدو المثل البريطاني الأوضح. فمجتمعها يشهد "انقسامات طبقية لم تكن موجودة قبل 30 إلى 40 سنة، وفي ما يتعلق أيضا بالمعتقدات السياسية".

تختلف الطبقات في داخلها، ويغيب مفهوم "التضامن" لمصلحة "ثقافة الاستهلاك" وانقسام بين العمال، حيث يلاحظ أن "الطبقة العاملة القديمة تصوت اليوم يمينيا، أكثر من الجيل الشاب الذي يصوت لحزب العمال"، وهو ما أكده في 2013 البروفسور مايك سافاج، من قسم علم الاجتماع في كلية لندن للاقتصاد.

إذا، المسألة، بقياسات رأي وتصويت فعلي، تؤشر أيضا إلى انتشار ظاهرة مقلقة في دول الشمال وألمانيا وهولندا والنمسا، وعدد من دول شرق ووسط أوروبا، حيث يتسيد الخطاب القومي، ومواجهة "النخبة" و"الإدارات القائمة" كبديل لخطاب "التضامن الطبقي"، ولا تغيب في هذا السياق نجاحات شعبوية، في إيطاليا وغيرها، بجذب أجزاء لا يستهان بها في سياق التجييش القومي المتطرف، بل وحتى استخدام الطبقة العاملة في مشاريعها لمواجهة مسائل معاداة المهاجرين والاتحاد الأوروبي.

ما يثير الانتباه في السياسة الحزبية ليسار الوسط الأوروبي اليوم، وهو ما يتردد في الدول التي كان فيها الاجتماعيون الديمقراطيون، بتحالف مع اليسار، في طليعة رافعي الرايات الحمراء في مسيرات العمال، والتبشير بمطالبهم، أنها أحزاب تتهم اليوم بالسعي لتقليد اليمين، وتبني شعاراته المتشددة والمتطرفة قوميا، ويجري هذا في دولتين على الأقل، شكلتا يوما وضوحا للنموذج الإسكندنافي، السويد والدنمارك، فيما الدائرة أوسع وتشمل دولا كثيرة حول أوروبا.
المساهمون