منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، راهنت الدولة التونسية على فتح السوق المحلية وتشجيع المبادلات التجارية، إضافة إلى تحرير الاقتصاد عبر تشجيع الاستثمار المحلي والأجنبي في كل القطاعات. لم يساهم فتح الأسواق التونسية أمام حركة التجارة العالمية، فقط في إغراق السوق المحلية بالسلع المستوردة، بل أثّر على البنية الإنتاجية للاقتصاد التونسي لتصبح بعض القطاعات التي ميزت الاقتصاد الوطني طيلة عقود مهددة نتيجة تراجع إنتاجها محليّاً. فالمناطق التونسية التي كانت تلقب بـ "مطمورة روما"، كونها كانت خزان القمح الاحتياطي إبان الاستعمار الفرنسي، لم تعد تنتج نصف ما تحتاجه السوق من قمح. أما قطاع النسيج الذي جذب مئات المستثمرين في السابق، تحول هو الآخر إلى أحد القطاعات التي تستنزف العملة الصعبة في البلاد نتيجة استيراد المنسوجات بشتى أنواعها وتعثر تجربة التصنيع المحلي.
وتفيد بيانات وزارة الفلاحة التونسية أنّ المساحة المزروعة حبوباً للموسم 2015 بلغت 1.45 مليون هكتار، ولكن لا يوفر إنتاج تونس من الحبوب سوى 50% من الاستهلاك المحلي حيث تستورد باقي حاجياتها بالعملة الصعبة، كما تستورد 80% من القمح المخصص لصناعة الخبز.
الاكتفاء الذاتي
يفسّر الخبير والمهندس الفلاحي أيمن بانور هذا العجز عن تحقيق الاكتفاء الذاتي بضعف مردودية الإنتاج التي تبلغ 8 أطنان في الهكتار وهو ما يعتبر أقل مردود عربياً وأفريقياً مقارنة بالدول المنتجة للحبوب، كالمغرب ونيجيريا حيث يبلغ مردود الهكتار 23 طنّاً في نيجيريا و21 طناً في المغرب. إضافة إلى محدودية الإنتاج، يستهلك التونسيون 16 مليون طن من الحبوب سنوياً، مما يكلّف الدولة قرابة 800 مليون دولار لسدّ النقص في السوق الداخليّة.
وتعود هذه المردودية الهزيلة بحسب محدثنا إلى عدة عوامل مختلفة، حيث تلعب الدولة دوراً أساسياً في تراجع إنتاج الحبوب بعد أن كانت البلاد تحقق اكتفاءها الذاتي خلال ستينات القرن الماضي إضافة على تراجع الإنتاج من 23 مليون طن سنة 1990 إلى 7 ملايين طن سنة 2014. ويقول بانور: "إن السياسة الفلاحية في مجال زراعة الحبوب تميزت بالارتجال وقصر المدى، وهو ما أدى إلى عدم الثبات والتبدل الدائم للإجراءات مع تبدل القرارات. كما فشلت تونس في تهيئة الأراضي الصالحة للزراعة، حيث لم تحسن التصرف في مواردها المائية مما أدى إلى عجزها عن تعويض المواسم الجافة عبر اعتماد الريّ لإنقاذ المحاصيل". ويشير بانور إلى أن تشتت الملكية وضيق مساحة الأرض الواحدة لعب دوراً في انحسار المحاصيل، إذ إن 54% من الفلاحين يزرعون الحبوب في أراض لا تتجاوز مساحتها 5 هكتارات. ليختم قائلاً "إن 12 % من المزارعين يعتمدون البذور الممتازة، في حين يستخدم الباقون البذور العادية نظراً لغياب الدعم لصغار الفلاحين وارتفاع أسعار النوع الممتاز من البذور".
اقــرأ أيضاً
يؤكد الفلاح عبد الحميد البجاوي أن المزارع التونسي قادر على سد هذا النقص وتعديل الميزان التجاري في حال وُجدت إرادة حقيقية من الدولة لدعم الفلاحين عبر إعادة تسعير البذور وجدولة الديون التي تنهك أكثر من 80% من المزارعين الصغار. ولكن العائق الأساسي بحسب رأيه، يكمن في اختيارات الدولة الاقتصادية وإصرارها على استيراد البذور الغالية والتي تكون غالباً ضعيفة المردودية، التزاماً منها بمعاهدات تجارية أو تنفيذاً لبرامج إصلاح القطاع الفلاحي المسقطة والتي لا تتلاءم وواقع القطاع في تونس وخصوصية الفلاح التونسي.
من جهة أخرى، تحتل واردات النسيج والملابس المرتبة الثانية بعد واردات الحبوب، حيث تفيد النشرة الصادرة عن وزارة التجارة التونسية أن واردات البلاد في هذا القطاع قد تجاوزت 200 مليون دولار عام 2015، محققة نسبة نمو ناهزت 9% مقارنة بعام 2014.
يوضح الخبير الاقتصادي محمد ياسين السوسي أن حالة الميزان التجاري التي توفر نسبة تغطية فاقت 21%، لا تعكس حجم الأزمة التي يعاني منها هذا القطاع. إذ سجلت صادرات تونس من النسيج تراجعاً خلال أكتوبر/تشرين الأول الماضي بنسبة 3.29% فيما زادت الواردات بنسبة 5.97%.
ويقول السوسي: "إن المنتجات التونسية من الملابس الجاهزة باتت اليوم لا تمثل سوى 15%، فيما ارتفعت المنتجات الأجنبية إلى 85%". ويعود تراجع صناعة النسيج المحلية في السنوات الأخيرة إلى سياسة الدولة التي فتحت أبواب الاستيراد على مصراعيها دون قيد أو شرط، مما أغرق السوق بالمنتجات التركية والصينية التي فتكت بالسوق، وفق السوسي. وتشير بيانات وزارة التجارة إلى استيراد البلاد خلال السنة الماضية 471 ألف طن من كافة أنواع النسيج من تركيا و336 ألف طن من الصين.
ويشير السوسي إلى أن أصحاب شركات النسيج يشتكون من النقص في الكفاءة المهنية لليد العاملة، حيث لا تخضع العمالة التونسية لتكوين متخصص في هذا القطاع، في حين أن هشاشة الأخير أبعدت اليد العاملة عنه.
أما عن ارتدادات هذا الوضع، فيؤكد السوسي أن القطاع فقد أكثر من 40 ألف فرصة عمل خلال السنوات الأربعة الماضية منذ 2011 إضافة إلى إغلاق أكثر من 300 مؤسسة عاملة في هذا المجال، كما أن أغلب العلامات التجارية التونسية اضمحلت أمام نظيرتها الأجنبية، التي دخلت البلاد بعد الثورة.
ويضيف السوسي: "رغم أهمية هذا القطاع الذي يوفر نحو 186 ألف موطن شغل، أي ما يعادل أكثر من 35% من العدد الإجمالي لمواطن الشغل التي توفرها مختلف مؤسسات الصناعات المعملية، إلا أن الدولة ظلت مكتوفة الأيدي إزاء هذه الأزمة التي تعصف بالقطاع، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى تقلص نوايا الاستثمار المصرح بها من قبل وزارة الصناعة في هذا القطاع بنسبة 21.3% إضافة إلى تراجع مواطن الشغل المزمع احداثها جراء هذه النوايا بنسبة 33%". أما المستفيد من هذه الأزمة، فيؤكد السوسي أن بارونات الاستيراد، وحجم العمولات سواء أثناء إدخال السلع أو عقد الصفقات، إضافة إلى سماسرة ووكلاء السلع الأجنبية في السوق المحلية يمثلون مجموعة ضغط قوية تمنع إيجاد مخرج لأزمة قطاع النسيج.
اقــرأ أيضاً
وتفيد بيانات وزارة الفلاحة التونسية أنّ المساحة المزروعة حبوباً للموسم 2015 بلغت 1.45 مليون هكتار، ولكن لا يوفر إنتاج تونس من الحبوب سوى 50% من الاستهلاك المحلي حيث تستورد باقي حاجياتها بالعملة الصعبة، كما تستورد 80% من القمح المخصص لصناعة الخبز.
الاكتفاء الذاتي
يفسّر الخبير والمهندس الفلاحي أيمن بانور هذا العجز عن تحقيق الاكتفاء الذاتي بضعف مردودية الإنتاج التي تبلغ 8 أطنان في الهكتار وهو ما يعتبر أقل مردود عربياً وأفريقياً مقارنة بالدول المنتجة للحبوب، كالمغرب ونيجيريا حيث يبلغ مردود الهكتار 23 طنّاً في نيجيريا و21 طناً في المغرب. إضافة إلى محدودية الإنتاج، يستهلك التونسيون 16 مليون طن من الحبوب سنوياً، مما يكلّف الدولة قرابة 800 مليون دولار لسدّ النقص في السوق الداخليّة.
وتعود هذه المردودية الهزيلة بحسب محدثنا إلى عدة عوامل مختلفة، حيث تلعب الدولة دوراً أساسياً في تراجع إنتاج الحبوب بعد أن كانت البلاد تحقق اكتفاءها الذاتي خلال ستينات القرن الماضي إضافة على تراجع الإنتاج من 23 مليون طن سنة 1990 إلى 7 ملايين طن سنة 2014. ويقول بانور: "إن السياسة الفلاحية في مجال زراعة الحبوب تميزت بالارتجال وقصر المدى، وهو ما أدى إلى عدم الثبات والتبدل الدائم للإجراءات مع تبدل القرارات. كما فشلت تونس في تهيئة الأراضي الصالحة للزراعة، حيث لم تحسن التصرف في مواردها المائية مما أدى إلى عجزها عن تعويض المواسم الجافة عبر اعتماد الريّ لإنقاذ المحاصيل". ويشير بانور إلى أن تشتت الملكية وضيق مساحة الأرض الواحدة لعب دوراً في انحسار المحاصيل، إذ إن 54% من الفلاحين يزرعون الحبوب في أراض لا تتجاوز مساحتها 5 هكتارات. ليختم قائلاً "إن 12 % من المزارعين يعتمدون البذور الممتازة، في حين يستخدم الباقون البذور العادية نظراً لغياب الدعم لصغار الفلاحين وارتفاع أسعار النوع الممتاز من البذور".
يؤكد الفلاح عبد الحميد البجاوي أن المزارع التونسي قادر على سد هذا النقص وتعديل الميزان التجاري في حال وُجدت إرادة حقيقية من الدولة لدعم الفلاحين عبر إعادة تسعير البذور وجدولة الديون التي تنهك أكثر من 80% من المزارعين الصغار. ولكن العائق الأساسي بحسب رأيه، يكمن في اختيارات الدولة الاقتصادية وإصرارها على استيراد البذور الغالية والتي تكون غالباً ضعيفة المردودية، التزاماً منها بمعاهدات تجارية أو تنفيذاً لبرامج إصلاح القطاع الفلاحي المسقطة والتي لا تتلاءم وواقع القطاع في تونس وخصوصية الفلاح التونسي.
من جهة أخرى، تحتل واردات النسيج والملابس المرتبة الثانية بعد واردات الحبوب، حيث تفيد النشرة الصادرة عن وزارة التجارة التونسية أن واردات البلاد في هذا القطاع قد تجاوزت 200 مليون دولار عام 2015، محققة نسبة نمو ناهزت 9% مقارنة بعام 2014.
يوضح الخبير الاقتصادي محمد ياسين السوسي أن حالة الميزان التجاري التي توفر نسبة تغطية فاقت 21%، لا تعكس حجم الأزمة التي يعاني منها هذا القطاع. إذ سجلت صادرات تونس من النسيج تراجعاً خلال أكتوبر/تشرين الأول الماضي بنسبة 3.29% فيما زادت الواردات بنسبة 5.97%.
ويقول السوسي: "إن المنتجات التونسية من الملابس الجاهزة باتت اليوم لا تمثل سوى 15%، فيما ارتفعت المنتجات الأجنبية إلى 85%". ويعود تراجع صناعة النسيج المحلية في السنوات الأخيرة إلى سياسة الدولة التي فتحت أبواب الاستيراد على مصراعيها دون قيد أو شرط، مما أغرق السوق بالمنتجات التركية والصينية التي فتكت بالسوق، وفق السوسي. وتشير بيانات وزارة التجارة إلى استيراد البلاد خلال السنة الماضية 471 ألف طن من كافة أنواع النسيج من تركيا و336 ألف طن من الصين.
ويشير السوسي إلى أن أصحاب شركات النسيج يشتكون من النقص في الكفاءة المهنية لليد العاملة، حيث لا تخضع العمالة التونسية لتكوين متخصص في هذا القطاع، في حين أن هشاشة الأخير أبعدت اليد العاملة عنه.
أما عن ارتدادات هذا الوضع، فيؤكد السوسي أن القطاع فقد أكثر من 40 ألف فرصة عمل خلال السنوات الأربعة الماضية منذ 2011 إضافة إلى إغلاق أكثر من 300 مؤسسة عاملة في هذا المجال، كما أن أغلب العلامات التجارية التونسية اضمحلت أمام نظيرتها الأجنبية، التي دخلت البلاد بعد الثورة.
ويضيف السوسي: "رغم أهمية هذا القطاع الذي يوفر نحو 186 ألف موطن شغل، أي ما يعادل أكثر من 35% من العدد الإجمالي لمواطن الشغل التي توفرها مختلف مؤسسات الصناعات المعملية، إلا أن الدولة ظلت مكتوفة الأيدي إزاء هذه الأزمة التي تعصف بالقطاع، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى تقلص نوايا الاستثمار المصرح بها من قبل وزارة الصناعة في هذا القطاع بنسبة 21.3% إضافة إلى تراجع مواطن الشغل المزمع احداثها جراء هذه النوايا بنسبة 33%". أما المستفيد من هذه الأزمة، فيؤكد السوسي أن بارونات الاستيراد، وحجم العمولات سواء أثناء إدخال السلع أو عقد الصفقات، إضافة إلى سماسرة ووكلاء السلع الأجنبية في السوق المحلية يمثلون مجموعة ضغط قوية تمنع إيجاد مخرج لأزمة قطاع النسيج.