01 فبراير 2019
الجميع ضد الدولة العميقة
سواء في أميركا، فرنسا، بريطانيا، إيطاليا، اليونان، هولندا، إسبانيا... فإن زلزالاً سياسياً جارفاً في طريقة إلى إعادة تشكيل الخرائط الانتخابية والحزبية والإيديولوحية، الموروثة عن حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما يعني، في نهاية التحليل، وبكثيرٍ من الاختصار والكثافة، أن الديمقراطية، في جغرافياتٍ هي بالضبط موطنها المرجعي، كثقافة وكقيم، توجد أمام لحظة تحول كبرى.
جزء مهم من هذا المخاض، قليلا ما يتم الانتباه إليه، يتعلق بتحول الموقف من الدولة "العميقة" ونخبها "التقليدية"، إلى عامل مهيكل للاصطفافات السياسية الجديدة، والتي يراد إنضاجها على أنقاض التقاطب المؤسس للتناوب في الديمقراطيات الغربية، بين التصورين المتنافسين حول مرحلة ما بعد "دولة الرعاية الاجتماعية"، والمستمدين من تقليدين فلسفيين عميقين، ينطلق الأول من فكرة الحرية، وينطلق الثاني من فكرة المساواة، لكي يصلا، في النهاية، إلى مساحة أيديولوجية جد متقاربة بين أطروحة اشتراكية ديمقراطية وأخرى ليبرالية بنفحة اجتماعية.
يمكن الوقوف سريعاً على بعض إرهاصات هذه التحولات ومؤشراتها، في الملاحظات التالية:
أولا: وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، زعيماً شعبوياً غير مسبوق في التاريخ السياسي الأميركي، على خلفية هجوم حاد على المؤسسة "الحاكمة"، وعلى نخب واشنطن، ما شكل عنصر ارتكاز مركزي لخطابه الانتخابي، ومشروعه السياسي.
ثانياً: بروز ملاحظ لحساسية يسارية حديثة، تحمل نبرة جديدة وأجوبة جريئة، معتمدة على جيل من القيادات الشابة، وعلى استثمار أمثل لوسائط التواصل الاجتماعي، مع تكريس خطاب نقدي حاد في مواجهة النخب السائدة وسياساتها المستلهمة من مؤسسات العولمة المالية.
ثالثاً: انبثاق إرهاصات حزبية غربية جديدة، تبحث عن الانتعاش، بعيدا عن التقاطب الرئيسي يمين/ يسار اللذين شكلا طرفي معادلة التناوب السياسي، كما طبع الممارسة الحكومية والانتخابية للديمقراطيات الغربية منذ عقود، بظهور قوى سياسية بملامح أيديولوجية غامضة، تحمل حزمة من التوجهات البيئية والشعبوية والشبابوية، وتستطيع تدبير استراتيجيات انتخابية مفاجئة، عبر الانفتاح على تقاليد الحركات الاجتماعية، وقدرتها على الاحتجاج والتعبئة، للتعبير عن مقاومة كل المؤسسات التقليدية "الفاسدة" و"المحافظة" و"الشائخة".
رابعاً: الحضور التنافسي القوي لقيادات شعبوية تنتمي لليمين المتطرّف، داخل مناخ الحملات الانتخابية الرئاسية القريبة في أكثر من بلد أوروبي، بخطاباتٍ هوياتيةٍ مغرقة في الوطنية الشوفينية، وبمشروع اقتصادي حمائي، وبرؤية معادية لأوروبا السياسية ولنخب بروكسل، انطلاقا من إعلان مبدئي حاسم للتموقع خارج "السيستيم"، وخارج النخب السياسية "المهيمنة"، في مواجهة مرشحي السلطة من اليمين واليسار "التقليديين".
خامساً: التحول المفاجئ لمقولة مناهضة "النسق السياسي" التي لم تعد حكراً على خطاب يسار اليسار، أو اليمين المتطرّف، بل أصبح ادّعاء مناهضة الدولة العميقة حجة انتخابية مطلوبة، حتى لدى مرشحي عائلات سياسية تقليدية (فرانسوا فيون مثلا)، الذين اختاروا مواجهةً مفتوحة مع بنياتٍ مركزية داخل النظام السياسي (القضاء، الإعلام...)، وهذا كله في سياقٍ أصبحت فيه كلمة "النخبة"، كما يلاحظ جاك أتالي، بمثابة شتيمة.
يبدو الخطاب السياسي الناهض في الغرب، بمرجعياته المختلفة، سواء الشعبوية اليمينية منها، أو ذات الخلفية اليسارية، ناطقا باسم الشعب في مواجهة المؤسسات، وتعبيرًا مباشرًا عن المجتمع العميق، بعيدا عما يعتبره وساطة للنخب "المتواطئة"، لكنه، في النهاية، لا يعمل، كما لاحظ عزمي بشارة، سوى على تفجير ثنائية الديمقراطية الليبرالية، مواجهة قيم الليبرالية والحداثة بآليات الديمقراطية والانتخابات.
نعم، توجد الديمقراطية في خطر مؤكد، لا يوازيه في الدرجة إلا ما وقع من نزوحٍ متطرّف للعالم في ثلاثينيات القرن الماضي، من خلال الظاهرتين، النازية والفاشية، لكن ما يحدث من صدمة "البريكسيت" إلى احتمال مارين لوبان، مرورًا بكابوس ترامب، يعني كذلك أن الديمقراطية محتاجة للدفاع عن نفسها وتصحيح إختلالاتها. وضمن ذلك، توجد بالتأكيد حاجة لإعادة الاعتبار للسياسة في مواجهة الاقتصاد والمال، ولثقافة التناوب وإرادة الشعوب في مواجهة إملاءات السوق والهيمنة التكنوإدارية والبنيات الموازية ومركبات المصالح، فضلا عن الحاجة إلى إعادة تعريف النخبة السياسية قناة للتعبير الحي والمستقل عن طموحات المجتمع، بعيدا عن حصر وظيفتها في مهام المناولة، لفائدة دوائر السلطة العميقة أو عوالم الاقتصاد المالي، أو هما معا في تواطؤهما القاتل، والذي يعد سببا مباشرا في الكفر بالديمقراطية، والتمهيد بالتبعية لنجاح بدائلها القليلة: الشعبوية أو الإرهاب.