ليس مشهداً سوريالياً، لكنه حقيقة مؤلمة تكشف فساد منظومات الحكم وتناقضات الواقع العربي في ما يتعلّق بالسياسة وتدبير الشأن العام وتسيير مقدرات البلدان وإدارة حاجيات الشعوب العربية، وتفضح فداحة ما تتكلّفه شعوب المنطقة المغاربية بسبب غياب تكامل اقتصادي.
يرمي الفلاحون في مدينة وادي سوف، جنوبي الجزائر (تبعد عن الحدود مع تونس نحو 100 كيلومتر)، كميات كبيرة من البطاطا بسبب فائض الإنتاج ونقص غرف التخزين. ويرمي المزارعون في تونس كميات من الحليب بسبب فائض الإنتاج وعجز السوق المحلي والحكومة عن استيعاب الكميات الفائضة.
يبدو هذا الخبر عرضياً، ويمكن أن يحدث في أكثر من دولة، لكنه يصبح قصة غريبة حين يتقاطع في اللحظة نفسها مع خبرين آخرين مفادهما أنّ الجزائر تشهد طوابير طويلة للحصول على أكياس حليب بسبب الندرة، ما يدفع الحكومة إلى استيراد كميات إضافية من أوروبا (قيمة الواردات السنوية 1.4 مليار دولار أميركي من الحليب)، فيما تعيش تونس أزمة بطاطا دفعتها إلى استيراد أطنان منها من دول أخرى، إلا الجزائر.
كان الأمر يحتاج إلى ربع عقل سياسي يأخذ في الاعتبار منطق الجغرافيا والجوار والاتفاقيات التجارية، ومبدأ المصلحة، وبساطة كلفة التوريد بحكم القرب، لاتخاذ قرار مشترك لتبادل المنافع والمصالح، يسمح لتونس باستيعاب فائض البطاطا الجزائرية وتأمين حاجياتها بكلفة أقل من استيرادها من أوروبا أو تركيا، في مقابل استيعاب السوق الجزائرية لفائض الحليب التونسي بدلاً من استيراده من هولندا الأبعد. قرار واحد ينهي أربع أزمات في الجزائر وتونس دفعة واحدة: أزمة الجزائريين مع ندرة الحليب ومعاناة المزارعين مع فائض البطاطا، ومأزق مزارعي تونس بشأن فائض الحليب ومشكلة التونسيين مع نقص البطاطا وارتفاع سعرها.
لم يُتخذ القرار السياسي المطلوب لأنه لا يخدم مصالح أوروبا ولوبيات الاستيراد التي تهرّب العملة إلى الخارج. يقول أحد المزارعين ساخراً، إنه إذا كان العقل السياسي للحكومات والقائمين على تدبير الشأن العام في الجزائر وتونس معطوباً، يمكننا العودة إلى أساليب التجارة القديمة (المقايضة)، التي كانت القبائل قديماً أكثر حذقاً فيها من الحكومات الحديثة، لنقم بمقايضة الحليب بالبطاطا.
يصبح الأمر أكثر إيلاماً حين يتعلّق ببلدين كالجزائر وتونس، حيث يسود العلاقة خطاب "تاريخاني" (مقاومة مشتركة للاستعمار)، لكنه خطاب استعراضي لا أثر له على أرض الواقع، ولا ينعكس في مجالات تنمية الحدود والتجارة البينية (1 في المائة نسبة المبادلات التجارية البينية فقط).
أزمة الحليب والبطاطا في تونس والجزائر، غيض من فيض، وجزء من مسار متخم بإخفاقات ترقى لأن تمثّل خيانة لاستحقاقات الشعوب. لم تخفق منظومات الحكم في البلدان المغاربية في إقامة ديمقراطيات تتيح نسقاً من الحريات والحرية الاقتصادية فقط، لكنها لم تنجح حتى في تسيير ما هو متاح من ممكنات التعاون الطبيعي لتلبية الاحتياجات اليومية للشعوب.
لا معنى لثورات الشعوب في تونس والجزائر إذا لم تحدث التغيير اللازم لرفع الحواجز المفتعلة التي تعيق تنمية نسق المنافع المتبادلة. ومن المهم أن تتوجه النخب السياسية والاقتصادية إلى مزيد من الضغط على الحكومات الجديدة في الجزائر وتونس، وأيضاً موريتانيا والمغرب (وليبيا بعد أن تستقر فيها الأوضاع) باتجاه تحرير المبادرة الاقتصادية والتجارة البينية، ما دامت جدران السياسة ما زالت عالية بين الحكام المغاربيين.
بدأت أوروبا مسارها الاتحادي من اتفاقية الحديد بين عدد من الدول، وانتهت إلى إنجاز وحدوية العملة وما تلاها، على الرغم من الاختلافات في الأعراق واللغات، بينما أخفقت دول مغاربية يجمعها التاريخ قبل الجغرافيا، والدين قبل اللغة، والدم قبل العرق، والمصلحة المشتركة، في تبادل البطاطا والحليب.