تتضاعف أعداد المعارض المكرَّسة للتاريخ الاستعماري الفرنسي في الجزائر، وهي علامة على أن الزمن بدأ يفعل فِعلَه على موضوع لا يزال ملتهباً، ويحتاج إلى وقت، وإلى مبادرات تقارب ومصارحة مشتركة. هذا ما خلصت إليه الصحافية في لوموند، روكسانا عظيمي. من جهتها، أدركت فرانسواز كوهن، مسؤولة إدارة فرع "معهد العالم العربي" في مدينة توركوان في شمال فرنسا، على الفور أنه من الضروري الانفتاح على جالية جزائرية مهمة في المنطقة، معتبرة الأمر من البديهيات. من هنا، جاء معرض "تصوير الجزائر"، الذي انتهى يوم 13 يوليو/تموز الماضي. لم تكن الفكرة في أذهان منظّميه هي رسم تاريخ الجزائر عبر التصوير، وإنما استدعاء نظرات مختلفة حول هذا البلد. صدفةً، اقترح متحف La Piscine، في مدينة روبي، شمال فرنسا، "ربيعاً جزائرياً"، عبر عرض تاريخي لأعمال الرسام المستشرق غوستاف غيومي، وهي شهادة صلبة عن بدايات الاستعمار الفرنسي، وغاليري من بورتريهات الأمير عبد القادر الجزائري، أحد رموز مقاومة الاستعمار الفرنسي في القرن التاسع عشر.
الطريف أن لا شيء يربط بين اقتران الأحداث التي جرت في شمال فرنسا، التي تمت برمجتها قبل فترة طويلة، وبين الانتفاضة التي تعرفها الجزائر ضد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، بل يتعلق الأمر باهتمام متزايد من قبل المتاحف الفرنسية بالتاريخ الاستعماري لفرنسا في الجزائر، بعد أربعين سنة من الإنكار والصمت. هذا الوعي يعود إلى سنة 2003 مع الاحتفالات بسنة الجزائر في فرنسا. في 2004، وهي السنة التي تعاون فيها ثلاثون مؤرخاً فرنسيا وجزائرياً في مؤلف "نهاية النسيان"، نظَّمَ المؤرخ بنجامان ستورا والكاتب لوران جيرفيرو معرض "تصوير حرب الجزائر" في فندق سولي، في باريس. وعلى الرغم من حضور صُوَرٍ لم تُنْشَر من قبل، فقد ظل النقص كبيراً، خصوصاً ما يتعلق بالحياة اليومية لحركة الأقدام السوداء أو التصدعات العنيفة داخل الحركة الوطنية الجزائرية. إلا أن تحولاً كبيراً جرى سنة 2012، مع تنظيم معرض "الجزائر 1830-1962" في متحف الجيش، في ليزانفاليد، في باريس، وهو محكيٌّ هادئ في ما يخص الحضور العسكري الفرنسي في الجزائر، وحرب الاستقلال، ولكنه لا يتحاشى أي فظاعة ارْتُكبت من هذا الطرف أو ذاك، وهو ما يوضحه الملازم عقيد كريستوف برتران، منسق المعرض، بالقول: "لم يكن من الوارد ألا نتحدث عن عنف أعمال الجيش الفرنسي".
كما أن معرض "صنع في الجزائر"، سنة 2016، في "موسم" (Mucem)، في مارسيليا، هو توضيحٌ صارم لكنه ليس جافّاً لناحية استخدام فن رسم الخرائط في التوسع الفرنسي في الجزائر. هذا الاستدراك يتواءم مع ظهور فنانين من أصول جزائرية، مثل عادل عبد الصمد وزينب سديرة أو قادر عطية، في سنوات 2000، في فرنسا. وكان اقتناء أعمال الفنانين الجزائريين، في هذه الفترة، يُحصى على رؤوس أصابع اليد الواحدة. فقد اشترى متحف الفن الحديث التابع لبلدية باريس، في 1964 و1969، منحوتتين لعبد الله بن عنتر، ثم لا شيء بعدها، تقريبا. الأمر نفسه ينطبق على مركز بومبيدو، الذي اقتنى في ثمانينيات القرن الماضي، عملين للجزائريين حميد تيبوشي وسليم الكواغط. وتنقل صحيفة لوموند عن أَلِيسْ بلانيل، المتخصصة في الشتات الفني الجزائري، تفسيرها لهذا التعتيم بأنه جمالي أكثر مما هو سياسي، إذ إن "الفنانين الجزائريين في سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، كانوا يهتمون بالفن اللاشكلي ويشتغلون على شكل رسم يبدو لهم راديكالياً، ولكن الفرنسيين لم تَعُد لديهم رغبةٌ فيه".
ولكن عالم الفن، اليوم، لا يتردد في معانقة القضايا ما بعد الكولونيالية التي يثيرها الشتات الفني الجزائري. تتساءل صحافية لوموند، روكسانا عظيمي، إن كان الزمن يفعل فعله؟ والجواب كما ترى هو: على الأرجح يفعل ذلك. ففي متحف الجيش، تم استبدال القادة العسكريين الذين شاركوا في الحرب بآخَرين لم يعيشوها إلا بالوكالة. وقد حل محلّ شهودِ في حالة شيخوخة، مؤرخون شباب ليس لديهم حسابٌ يدفعونه ولا خطابات أيديولوجية يدافعون عنها. وهو ما يعبر عنه بنجامان ستورا بالقول: "الباحثون الشباب لا يثقلون أنفسهم بالماضي. فهم لم يُولَدوا في الجزائر، وليس لديهم رابط جسدي". وهو موقف قريب مما تقوله هيلين أورين، مديرة متحف تاريخ الهجرة، الذي يحرص على "تهدئة المواضيع من دون أن يُخمِد في شيء الهيجانات"، حين ترى أنه بالإمكان أن "نحكي التاريخ بهدوء أكبر، والتركيز على الوقائع".
ولكن على الرغم من هذا التقدم الحاصل، إلا أن الذاكرة لا تزال متشظية، والموضوع لا يزال ملتهبا، وهو ما يتجلى في إقدام فيليب سوريل، عمدة مدينة مونبولييه سنة 2014، بُعيد انتخابه، على الفور، على دفن مشروع "متحف تاريخ فرنسا والجزائر". والسبب، دونما شك، هو الخوف من أن يجد العمدة نفسَه تحت سهام الأقدام السوداء وأيضا الجالية الجزائرية التي انغرست في المدينة. وتم افتتاح مركز الفن المعاصر، "Moco"، مكانه، فيما التحقت مجموعة 1100 تحفة بمتحف "Mucem" في مارسيليا، الذي اختار في حينه أن يعرضها.
هذا المتحف الموجود في مارسيليا، ينظم جلسات أطلق عليها "صوت الأشياء"، إذ يستقبل، في كل مرة، مئات المستمعين، في "لحظات مؤثرة جدا من تقاسم الانفعالات، وفي شكل من أشكال التنفيس"، وهو ما "يحمل الهدوء في النقاش"، في متحف "يحترم فيه الناسُ بعضهم البعض ويتحدثون دون أن يتمزقوا". كما يصر على ذلك جان فرانسوا شونيي، المسؤول عن متحف "Mucem" مضيفا: "إنه ينقلنا إلى الواقعي، ولا يمكن أن نحكي أي شيء ونحن نتواجَهُ معه".
لكن الأشياء القادرة على فرض الإجماع تظل نادرة، وخصوصا أن التاريخ البصري الكولونيالي، كما يشير بنجامان ستورا، ليس مساواتيا، فالجزائريون لم ينتجوا بقدر ما أنتج المُستعمِرون من الصُوَر. هكذا، فإنّ معرض توركوان لا يُقدّم إلا مصورا فوتوغرافيا جزائريا واحدا، وهو الرائد محمد كواسي. وقد وجّه المتحف نداءً لجمع شهادات من أجل الحصول على صُوَر قد تكون في حوزة العائلات الجزائرية المستقرة في شمال فرنسا منذ أمد بعيد، من أجل حاجيات فيلم وثائقي يُعرَض أثناء المعرض، إلا أنه لم يستجب سوى 15 شخصا.
تعترف المسؤولة عن فرع معهد العالم العربي بتوركوان، فرانسواز كوهن، بأنه لم يكن من السهل إرساء رابط ثقة، يجعل هؤلاء الجزائريين يتحدثون بعيدا عن الدائرة العائلية. والسبب هو أن "الجروح في كل مكان لما تندمل بعد". سواء تعلق الأمر بالمهاجرين الجزائريين أو الأقدام السوداء أو الحَركيين، فالجميع يتملكهم "شعور الخيانة والتخلي". تكشف فلورنس هودوفيتش، وهي وصية على مجموعة في هذا المعرض، أن كتابة بطاقات مظروفة في المعارض المخصصة للجزائر تكشف دائما عن مخاطر، إذ إن "كل كلمة تُحرِق. ويجب دائما أن نضع في أذهاننا الدقة والعدالة، ورؤية سامية حتى تتم قراءة النصوص من طرف الجميع، ومن دون أن يغضب أحدٌ، ومع تجنب المبالغة في طلب التعويضات".
اقــرأ أيضاً
الطريف أن لا شيء يربط بين اقتران الأحداث التي جرت في شمال فرنسا، التي تمت برمجتها قبل فترة طويلة، وبين الانتفاضة التي تعرفها الجزائر ضد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، بل يتعلق الأمر باهتمام متزايد من قبل المتاحف الفرنسية بالتاريخ الاستعماري لفرنسا في الجزائر، بعد أربعين سنة من الإنكار والصمت. هذا الوعي يعود إلى سنة 2003 مع الاحتفالات بسنة الجزائر في فرنسا. في 2004، وهي السنة التي تعاون فيها ثلاثون مؤرخاً فرنسيا وجزائرياً في مؤلف "نهاية النسيان"، نظَّمَ المؤرخ بنجامان ستورا والكاتب لوران جيرفيرو معرض "تصوير حرب الجزائر" في فندق سولي، في باريس. وعلى الرغم من حضور صُوَرٍ لم تُنْشَر من قبل، فقد ظل النقص كبيراً، خصوصاً ما يتعلق بالحياة اليومية لحركة الأقدام السوداء أو التصدعات العنيفة داخل الحركة الوطنية الجزائرية. إلا أن تحولاً كبيراً جرى سنة 2012، مع تنظيم معرض "الجزائر 1830-1962" في متحف الجيش، في ليزانفاليد، في باريس، وهو محكيٌّ هادئ في ما يخص الحضور العسكري الفرنسي في الجزائر، وحرب الاستقلال، ولكنه لا يتحاشى أي فظاعة ارْتُكبت من هذا الطرف أو ذاك، وهو ما يوضحه الملازم عقيد كريستوف برتران، منسق المعرض، بالقول: "لم يكن من الوارد ألا نتحدث عن عنف أعمال الجيش الفرنسي".
كما أن معرض "صنع في الجزائر"، سنة 2016، في "موسم" (Mucem)، في مارسيليا، هو توضيحٌ صارم لكنه ليس جافّاً لناحية استخدام فن رسم الخرائط في التوسع الفرنسي في الجزائر. هذا الاستدراك يتواءم مع ظهور فنانين من أصول جزائرية، مثل عادل عبد الصمد وزينب سديرة أو قادر عطية، في سنوات 2000، في فرنسا. وكان اقتناء أعمال الفنانين الجزائريين، في هذه الفترة، يُحصى على رؤوس أصابع اليد الواحدة. فقد اشترى متحف الفن الحديث التابع لبلدية باريس، في 1964 و1969، منحوتتين لعبد الله بن عنتر، ثم لا شيء بعدها، تقريبا. الأمر نفسه ينطبق على مركز بومبيدو، الذي اقتنى في ثمانينيات القرن الماضي، عملين للجزائريين حميد تيبوشي وسليم الكواغط. وتنقل صحيفة لوموند عن أَلِيسْ بلانيل، المتخصصة في الشتات الفني الجزائري، تفسيرها لهذا التعتيم بأنه جمالي أكثر مما هو سياسي، إذ إن "الفنانين الجزائريين في سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، كانوا يهتمون بالفن اللاشكلي ويشتغلون على شكل رسم يبدو لهم راديكالياً، ولكن الفرنسيين لم تَعُد لديهم رغبةٌ فيه".
ولكن عالم الفن، اليوم، لا يتردد في معانقة القضايا ما بعد الكولونيالية التي يثيرها الشتات الفني الجزائري. تتساءل صحافية لوموند، روكسانا عظيمي، إن كان الزمن يفعل فعله؟ والجواب كما ترى هو: على الأرجح يفعل ذلك. ففي متحف الجيش، تم استبدال القادة العسكريين الذين شاركوا في الحرب بآخَرين لم يعيشوها إلا بالوكالة. وقد حل محلّ شهودِ في حالة شيخوخة، مؤرخون شباب ليس لديهم حسابٌ يدفعونه ولا خطابات أيديولوجية يدافعون عنها. وهو ما يعبر عنه بنجامان ستورا بالقول: "الباحثون الشباب لا يثقلون أنفسهم بالماضي. فهم لم يُولَدوا في الجزائر، وليس لديهم رابط جسدي". وهو موقف قريب مما تقوله هيلين أورين، مديرة متحف تاريخ الهجرة، الذي يحرص على "تهدئة المواضيع من دون أن يُخمِد في شيء الهيجانات"، حين ترى أنه بالإمكان أن "نحكي التاريخ بهدوء أكبر، والتركيز على الوقائع".
ولكن على الرغم من هذا التقدم الحاصل، إلا أن الذاكرة لا تزال متشظية، والموضوع لا يزال ملتهبا، وهو ما يتجلى في إقدام فيليب سوريل، عمدة مدينة مونبولييه سنة 2014، بُعيد انتخابه، على الفور، على دفن مشروع "متحف تاريخ فرنسا والجزائر". والسبب، دونما شك، هو الخوف من أن يجد العمدة نفسَه تحت سهام الأقدام السوداء وأيضا الجالية الجزائرية التي انغرست في المدينة. وتم افتتاح مركز الفن المعاصر، "Moco"، مكانه، فيما التحقت مجموعة 1100 تحفة بمتحف "Mucem" في مارسيليا، الذي اختار في حينه أن يعرضها.
هذا المتحف الموجود في مارسيليا، ينظم جلسات أطلق عليها "صوت الأشياء"، إذ يستقبل، في كل مرة، مئات المستمعين، في "لحظات مؤثرة جدا من تقاسم الانفعالات، وفي شكل من أشكال التنفيس"، وهو ما "يحمل الهدوء في النقاش"، في متحف "يحترم فيه الناسُ بعضهم البعض ويتحدثون دون أن يتمزقوا". كما يصر على ذلك جان فرانسوا شونيي، المسؤول عن متحف "Mucem" مضيفا: "إنه ينقلنا إلى الواقعي، ولا يمكن أن نحكي أي شيء ونحن نتواجَهُ معه".
لكن الأشياء القادرة على فرض الإجماع تظل نادرة، وخصوصا أن التاريخ البصري الكولونيالي، كما يشير بنجامان ستورا، ليس مساواتيا، فالجزائريون لم ينتجوا بقدر ما أنتج المُستعمِرون من الصُوَر. هكذا، فإنّ معرض توركوان لا يُقدّم إلا مصورا فوتوغرافيا جزائريا واحدا، وهو الرائد محمد كواسي. وقد وجّه المتحف نداءً لجمع شهادات من أجل الحصول على صُوَر قد تكون في حوزة العائلات الجزائرية المستقرة في شمال فرنسا منذ أمد بعيد، من أجل حاجيات فيلم وثائقي يُعرَض أثناء المعرض، إلا أنه لم يستجب سوى 15 شخصا.
تعترف المسؤولة عن فرع معهد العالم العربي بتوركوان، فرانسواز كوهن، بأنه لم يكن من السهل إرساء رابط ثقة، يجعل هؤلاء الجزائريين يتحدثون بعيدا عن الدائرة العائلية. والسبب هو أن "الجروح في كل مكان لما تندمل بعد". سواء تعلق الأمر بالمهاجرين الجزائريين أو الأقدام السوداء أو الحَركيين، فالجميع يتملكهم "شعور الخيانة والتخلي". تكشف فلورنس هودوفيتش، وهي وصية على مجموعة في هذا المعرض، أن كتابة بطاقات مظروفة في المعارض المخصصة للجزائر تكشف دائما عن مخاطر، إذ إن "كل كلمة تُحرِق. ويجب دائما أن نضع في أذهاننا الدقة والعدالة، ورؤية سامية حتى تتم قراءة النصوص من طرف الجميع، ومن دون أن يغضب أحدٌ، ومع تجنب المبالغة في طلب التعويضات".
وأخيرا ليس من السهل حثّ مؤرخين جزائريين على المساهمة في مشاريع مشتركة. وكما يعترف الملازم العقيد كريستوف برتران، فقد "حاولنا الاعتماد على مؤرخين جزائريين سنة 2012، ولكن الأمر كان معقَّداً لأسباب سياسية". كما أن معرض "صنع في الجزائر"، لم يتم استقباله في الجزائر، رغم العمل الطويل الذي أنجز على الذاكرة، من كلا الطرفين. وهو ما يجعل المؤرخ بنجامان ستورا يطالب بـ"مواصلة العمل، مع اليقين بأننا لن نُوجِد حَلاًّ لهذا التاريخ المعقد، من خلال مَعرض واحد، ولكن من خلال أحداث متعددة".