الجزائر.. صناعة المأزق

07 مارس 2019
+ الخط -
اللامعقولية السياسية التي تجسّدت في تمسّك الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة (أو إرغامه على التمسك)، بالسلطة، على الرغم من عدم لياقته الصحية لإدارة دولة، تسير جنباً إلى جنب مع المعقولية اللافتة في تعامل السلطات الأمنية الجزائرية (حتى الآن) مع المتظاهرين ضد "العهدة الخامسة" لبوتفليقة. ما دلالة هذا الأمر؟
لا يحمل الرئيس الجزائري المريض إرثاً من المجازر في سجله السياسي، كما هو حال نظيره السوداني، يجعله في صراع حياة أو موت ضد من يطالبونه بترك السلطة والخلود إلى الراحة. ترك السلطة لا يفتح أمام بوتفليقة باب محكمة الجنايات الدولية، أو محكمة الجنايات المحلية. على العكس، يحمل الجزائريون له التقدير، لأنه استطاع أن يُخرج البلاد من دائرة الحرب الأهلية التي غطت عقد التسعينات، فقد أنجز الرجل مصالحة وطنية عجز عنها سلفه اليمين زروال، وعجز بالتالي عن إيجاد مخرج من الصراع المسلح، وأمام تعقيدات الحال الجزائرية، تخلى عن الحكم قبل أن تنتهي مدة ولايته. كما يقدّر الجزائريون لبوتفليقة تاريخه السياسي الذي يمتد من دوره في حرب التحرير، إلى دوره السياسي البارز ما بعد الاستقلال، منذ أصبح وزيراً لخارجية هواري بومدين في عمر الخامسة والعشرين. ولكن لماذا يبدو اليوم بوتفليقة كمن يتعمّد الإساءة لخاتمته السياسية؟ ما الذي يدفعه، وهو طريح الفراش، ولم يتمكّن من مخاطبة شعبه، منذ سبع سنوات، إلى التمسّك بالسلطة؟
ربما يصح القول، في الحالة الجزائرية الراهنة، إن السلطة تمسّكت بالرئيس المقعد أكثر مما تمسّك هو بها. أي أن دائرة الحكم الضيقة لاتزال تتمسّك بالرجل الذي توافقت عليه منذ 
1999، ولا تجد بديلاً له. وقد يكون في ذلك ما يفسّر العرض الذي قدمه بوتفليقة من مشفاه في جنيف (أو قُدّم باسمه)، بأنه سيعقد، في حال انتخابه، مؤتمراً للتوافق الوطني، يضم كل القوى السياسية، يخلص إلى إصلاحاتٍ سياسيةٍ عميقة، يعقبه تنظيم انتخابات رئاسية مبكرة جداً (بعد عام) لا يشارك هو فيها.
الراجح أن هذا الوقت الفاصل بين انتخاب بوتفليقة المفترض لولاية خامسة والانتخابات الرئاسية المبكرة التي يعد بها سيكون وقتاً للرهان على إيجاد بديلٍ متوافقٍ عليه من مراكز القوة في السلطة الجزائرية. ولكن يبقى السؤال: لماذا لم تتمكّن دائرة الحكم الضيقة هذه من التوافق على بديلٍ قبل موعد تقديم الترشيحات، في الوقت الذي يدرك فيه الجميع أن ترشيح بوتفليقة لولاية خامسة سيكون استفزازاً للشارع الجزائري الذي سبق أن احتج، وإنْ يكن في مستوىً أدنى، على ترشّحه لولايتين، ثالثة ورابعة؟ البحث عن إجابة على هذا السؤال قد يفسّر التجاور المشار إليه في البداية، بين اللامعقوليتين، السياسية والأمنية في المشهد الجزائري. بمعنى أن صعوبة التوافق على بديلٍ أدت إلى إبقاء بوتفليقة في الواجهة، وأدّت، في الوقت نفسه، إلى التعامل الحذر مع الاحتجاجات، خشية الدخول في تبعاتٍ غير مسيطر عليها في لحظة الفراغ بين رئاستين. صحيح أن المتظاهرين لا يرفعون شعار "إسقاط النظام" على غرار الثورات العربية المجاورة أو البعيدة، إلا أنهم يعنونه في مطالبهم التي تتجاوز شعار "لا للعهدة الخامسة"، للمطالبة "بتغيير السلطة وبتحييد الدولة العميقة وبحوار شامل وبنظام جديد".
لا يخفى أن رفض المظاهرات الجزائرية لترشيح بوتفليقة يشير إلى حقيقة مضمرة، تقول إن ترشيحه يعني فوزه، وهذا يعني أن المتظاهرين يدركون أن "الديمقراطية" في بلادهم ينخرها الفساد والتسلط والتزوير.. إلخ، وهو ما يفسّر مطالبهم آنفة الذكر التي تعني أن رفض الولاية الخامسة هو عنوان تغيير النظام أو المدخل إليه.
بعد انتهاء مهلة الترشيح، أغلق الباب على إمكانية أن تتوافق مراكز السلطة على مرشّح آخر، 
ولم يعد أمام السلطة سوى الاستمرار في ترشيح بوتفليقة، أي لم يعد أمامها سوى المواجهة مع الشارع. ما سبق يعطي أرضيةً للتوقع بأن القبضة الأمنية لن تبقى بهذه الليونة، وأن المشهد الحضاري سينقلب بعد انتخاب بوتفليقة الذي يبدو مؤكّداً، إذا ما سارت الأمور على ما هي عليه الآن حتى 18 أبريل/ نيسان المقبل. ومن غير المتوقع أن يستجيب بوتفليقة (أو دائرة الحكم الضيقة) إلى نداءات الانسحاب من الترشّح بعلة "الصعوبات الصحية المانعة" التي يقرّها القانون، كما يطالبه جزائريون كثر، ومنهم الروائي الجزائري واسيني الأعرج، الذي وجّه رسالة إلى بوتفليقة "مفترضاً أنكم تسمعون وأنكم فِي بعض قواكم العقلية والجسدية".
مأزق السلطة الجزائرية الحالي المتمثل في عدم وجود بديل لبوتفليقة، بعد انتهاء مهلة الترشح، وتحول صراعها مع الشارع إلى صراع كسر إرادة صريح، لا محل فيه للمساومة، هو ما جعل الحكومة الفرنسية تنتقل من المعارضة الشديدة لترشيح بوتفليقة إلى السكوت عن ذلك، من أجل "ضمان استقرار البلد" الذي يشكل ثقلاً جيوسياسياً وازناً في حوض المتوسط، والذي يترك انعكاساتٍ مباشرة على الدولة الفرنسية. الخطر الذي يمكن أن يتولّد عن هذا الموقف هو أن يشجّع السلطة الجزائرية على قمع الاحتجاجات.
المواجهة بين الشارع والسلطات الجزائرية تحولت بعد منتصف ليل الثالث من مارس/ آذار (موعد انتهاء تقديم طلبات الترشيح) إلى مواجهة كسر عظم، بعد أن كانت مواجهة ضغوط متبادلة، وهذا ما يضع الحال الجزائري على منزلق خطر، ربما يدفع السلطات إلى تغيير "المعقولية" الأمنية الراهنة إلى لامعقولية أمنية توازي اللامعقولية السياسية، المتمثلة في الإصرار على ترشيح بوتفليقة، سيما عقب التغير في الموقف الفرنسي.
ومن جهة الحراك الجزائري، من الواضح أنه استلهم حركة السترات الصفراء في فرنسا أكثر 
مما استلهم ثورات الربيع العربي، فهو يبتعد بوعي عن أي غطاء سياسي، لأن "الشعب الجزائري قد فقد ثقته في الأطر التنظيمية"، ولأن "جميع الأحزاب السياسية والمنظمات لا تمثلنا، سواء كانت في الحكم أو في المعارضة"، كما جاء في بيان الشعب الجزائري الذي وزع في 28 فبراير/ شباط الماضي. وقد طرد المتظاهرون أكثر من شخصية سياسية حاولت الانضمام إلى الحراك، من اليمين كما من اليسار، مصرّين على أنهم حركة شعبية على غرار الحركة الصفراء في فرنسا.
لا يغيب عن المراقب القاسمُ المشترك لحركات الاحتجاج العربية المتمثل في العنصر الشاب، وفي الجزائر يضاف إليه الحضور اللافت للمرأة، ذلك أن الشباب يبقون أكثر تحرّراً من القيدين اللذين يقيدان كبار العمر، الاعتياد والبطش السابق الذي يترك ثقله على ذاكرة الكبار ويقعدهم عن الثورة.
غياب إمكانية التسوية يضع الحال الجزائري في دائرة الخطر. حسمت جهة السلطة أمرها بالمضي في ترشيح بوتفليقة، ولم يعد أمام الشارع سوى الاستمرار في التحدّي أو التراجع الذي لا يبدو مرجّحاً. بذلك تكتمل عناصر المأزق الذي هو سلطة لا تريد التراجع، ولا تستطيع الانتصار، فتستعين بكل الشرور، وشعب لا يريد التراجع، ولا يستطيع الانتصار فتنفتح شهية كل الشرور لاستثمار نقمته وثورته.
من المفيد ملاحظة أن بوتفليقه (اقرأ الدائرة المحيطة به من السلطة الفعلية) يعد اليوم "بإصلاحات سياسية عميقة" إذا انتخب للمرة الخامسة، ولكنه لم يباشر بهذه الإصلاحات في بحر رئاساته المتكرّرة. الحاجة إلى إصلاحات سياسية لا تلح على مدارك المسؤولين إلا تحت ضغط الشارع وبالإكراه. تماماً كما كان الحال مع بقية الحكام العرب أمام موجة الثورات العربية. هذه حقيقة تؤكّد أن الديمقراطية ليست انتخابات حرة ونزيهة، تعقد بانتظام كل فترة، تستطيع الأنظمة استيعابها وتقليم أظافرها ووضعها في الجيبة، بل هي حضور شعبي فاعل ودائم. ولكي يتحقق هذا الحضور، ينبغي له أن يتجسّد في مؤسساتٍ مدنيةٍ توازي مؤسسات الدولة، لا أن يترك الأمر كاملاً لهذه الزائرة الطارئة، ومتقلبة المزاج التي اسمها المظاهرة.
F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.