الجدار وحقل القمح والبيداء

23 ابريل 2018
سعيد بن شفاج/ المغرب
+ الخط -

عندما تسلط الشمس الفتية أشعتها كل صباح على الجدار الذبالي العالي الذي يفصل بين الدور والحقل البرسيمي الكبير، يلتهب ويشعّ شيء ما مدهش في دماغي.

أنا وحدي الذي أحبّ الجدار، وأنا وحدي الذي أحبّ الرجل الذي يجلس وحده على المصطبة يدخّن الكيف أسفله. الجدار يوحي بالفصل والوصل؛ بالأمن والخوف؛ بالحركة والسكون، وبالحياة والموت.

والرجل كان فعلاً رجلاً؛ بأيد غير ناعمة؛ وبشاشية وشاش شرقي وسروال تقليدي وقميص صوفي مهترئ يفضح جزءاً من الكتف. كان محارباً شجاعاً وأصبح مزارعاً ناجحاً ينظف السواقي ويرعى الفصائل النباتية التقليدية.

كنت أجلس معه ويحكي لي عن الدار الحديدية التي توجد بالبيداء وراء البرسيم، كان مهووساً بالحديد وبالذهب والخيل والأسلحة والحرب.

كان يحب أن يغيّر إيقاع كلامه، تارة يسترسل هادئاً يحدّث عن كل شيء وعن لا شيء؛ عن جزر ترى فيها أشجار فاكهتها نساء يولدن من قلوب أزهار؛ عن بني كلبون والعماليق؛ والأقوام التي تأكل مرضاها والعجزة. ويا ويحي إن ضحكت، أو لم أستحسن حكايته، حينذاك يغيّر النبرة ويصيح عالياً: يا ويلي، يصبح مخيفاً وأهرب.

- من أين تأتي بكل هذه الحكايات؟
- من عازف أعمى صادفته في مدينة تلمسان الجزائرية ذات خريف بعيد الحرب. كان يشتغل حارس حان، وكان لديه الوقت الكافي للحكايات.

كان صديقي يحب الجدار، والحقل البرسيمي والبيداء، لكنه كان يجنّ عندما يتحدّث عن المنزل الحديدي والصوف والذهب، ورقص العبيد كل مساء.

عندما أفتقده وألتقيه كان يقول إنه بات الليلة في البيت الحديدي الذي بدون باب. كنت أعرف أنه يكذب، وأن البيت الحديدي لا يوجد سوى في قصص وراء الموقد، لكن لم أجرؤ أبداً على معاكسته.

- أتسلق الجدار لأنام على الصوف الذي جمعه قطاع الطرق من الرعاة.
- هل تعلم لماذا حرموا الكيف؟ سألني ذات يوم. لم ينتظر الجواب.
- ليحتكروا التدخين لوحدهم وذويهم، أجاب.
- هذا الجدار يفصلنا عن الموتى هنا داخل الدور، ويوصلنا بالأحياء هناك في المقابر وفي البيداء حيث الرعاة والبدو الأحرار.

كنّا نشترك في عشق الصحراء والمقابر والبدو، لكني كنت أحب ظلال الأزقة أيضاً، وكان يحلو له أن يقول إن حبي للظل والأزقة وساحات الحارة يرجع إلى عدم ممارستي الحرب.

- لو خضت الحرب واستنفرت لتدافع عن نفسك بقتل عدوك لأصبح ما دون ذلك تافهاً...
- أنا أسفل الجدار الذبالي المذهب بالشمس وعلى المصطبة ومعي صاحبي الحكيم، وتريدني أن أقاتل، أنا لا أحب الحرب حتى في الكلام.
- ستأتيكم ذات يوم، وستتسلق الجدران مثل الحيّات وتدخل إلى الأزقة، وربما صعقتكم في السطوح وأنتم غير مستعدين.

في نفس اللحظة التي كنا نلهو فيها بالكلام مرّ تلامذة المدرسة مهرولين، ومرقت حدأة فوق رأسينا لتخطف عصفوراً وليداً بالكاد يتعلم الطيران، وعلت زغرودة من داخل السور معلنة ميلاد ذكر سيكون فارساً ذات حرب، لهذا فرحت الأمهات. نحن لازلنا في القبيلة حتى وإن لم نعد رعاة، كان يحلو للأحمق الحكيم أن يقول.

ومرّت سنوات وسقط الجدار ومات الحكيم، وبُنيت دور إسمنتية غبية فوق البرسيم، ودخل الرعاة إلى الحقول يعيثون فيها فساداً، وسُطّر طريق ثعباني أسود جرّ معه دخان السيارات بدل الجمال والحمير، والمخدرات الكيماوية بدل الكيف. وظهر شيء جديد اسمه البطالة، وتنظمت العصابات تسطو على المنازل لما يسافر الرجال، أو تسطو على تنظيم الجماعة القروية لتستبيح ما تشاء بشرعية مكذوب عليها اسمها الاقتراع.

ألم يقل الحكيم ستصعقون من دون أن تهيّؤوا؟


* كاتب من المغرب

المساهمون