الجبهة الشعبية في تونس.. تذبذب الأداء

12 سبتمبر 2015

أنصار الجبهة الشعبية يدعمون مرشحها في انتخابات الرئاسة (نوفمبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -
شكلت "الجبهة الشعبية" في تونس، في أثناء حكم الترويكا، واحدة من أهم القوى السياسية التي عارضت الوافدين الجدد للسلطة، واستطاعت بناء تحالفات مختلفة، من أجل إثارة الرأي العام، وتعبئة الشارع لإطاحة السلطة القائمة، وقد كان تحالفها مع "نداء تونس"، الحزب المعروف بوصفه امتداداً للنظام السابق لحظة فارقة في المشهد السياسي التونسي، حيث كانت الجبهة، والتي تتشكل من مجموعة من الأحزاب اليسارية، قد أعلنت رفضها التخندق مع من كانت تطلق عليهم قوى الثورة المضادة، غير أن حسابات الواقع السياسي دفعتها إلى التقارب مع "نداء تونس"، وإيجاد تبريرات للعمل المشترك (خصوصاً في أثناء ما أطلق عليه اعتصام الرحيل/ يوليو/تموز 2013)، وكان الشعار الأساسي الجامع بين هذه القوى المتناقضة إبعاد "النهضة" وحليفيها "المؤتمر من أجل الجمهورية" و"التكتل من أجل العمل والحريات" عن كرسي الحكم، وكان التبرير الذي قدمته قيادات في الجبهة وجود قاسم مشترك بينها وبين النداء، هو الحفاظ على النمط المجتمعي الذي قدرت الجبهة أن حركة النهضة تشكل تهديداً له. وفي أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية (أكتوبر/تشرين أول 2014)، كان للجبهة مرشحها الخاص، غير أنها في الدورة الثانية من الانتخابات لم تخف دعوتها إلى قطع الطريق على المرشح، المنصف المرزوقي. بدا المشهد العام، حينها، أن "نداء تونس" حليف المرحلة سيكون حليف السلطة، بعد فوزه في الانتخابات. وهنا شكل تحالف النداء مع حركة النهضة واستبعاده الجبهة ضربة حقيقية للحسابات السياسية التي راهنت عليها قيادات في الجبهة، ما يفسر حالة الارتباك التي ميزت الأداء السياسي للجبهة الشعبية وكتلتها البرلمانية، حيث ظهرت مواقفها مهزوزة، وغير محددة الملامح، خصوصاً مع مواصلتها اتخاذ موقف سلبي من بعض قوى المعارضة. ونعني هنا خصوصاً حراك شعب المواطنين، وهو موقف يمكن تلمسه في تصريحات أحد قيادات الجبهة الذي أعلن ارتيابه في الحراك الذي يتزعمه الرئيس السابق، المنصف المرزوقي، واعتباره خطراً على السلم الأهلي. فقد قال زياد الأخضر أحد قيادات الجبهة "هذا التجمّع الذي تشكّل حول شخصيّة المرزوقي يمكن أن يتحوّل إلى حزب خطير على أمن تونس واستقرارها ووحدتها. ولذلك، طرحنا التصدّي له. واليوم، نرى أنّ الحزب الذي سيتم الإعلان عنه، حراك شعب المواطنين، يجسّد هذا التّوجّه، وهو يلتقي، في جزء كبير منه، مع توجّهاتٍ أصبحت واضحة في الوطن العربي ومنطقتنا، وهي توجّهات لا تخدم إلاّ تفتيت المنطقة، وإدخالها في اقتتال أهلي، لن يستفيد منه إلا أعداء الأمّة العربية وأعداء التقدّم والديمقراطية" (صحيفة صوت الشعب 23/02/2015). وعلى الرغم من التقاطع الممكن بين الحراك وحلفائه، مثل التيار الديمقراطي والجبهة الشعبية، رفضت الأخيرة المشاركة في التحركات الشعبية المطالبة بالكشف عن حقيقة ملف الطاقة في تونس (حملة "وينو البترول؟)، واعتبر حمة الهمامي، أحد أبرز قادة الجبهة "إن بعضهم يستغل الملف لإثارة الفتنة والصراعات القبلية والجهوية" (تصريح لإذاعة شمس أف أم في 07/06/2015).
وامتدت حالة المناكفة السياسية التي تبديها الجبهة إزاء قوى المعارضة الأخرى، في ملف المصالحة الاقتصادية المطروح حالياً أمام مجلس النواب التونسي، وعلى الرغم من مشاركة الجبهة في تظاهرات شعبية، تنادي بوقف تفعيل هذا القانون، إلا أنها ترفض التنسيق مع بعض قوى المعارضة، ما تجلى في عدم حضورها الاجتماعات التي تعقدها بعض أحزاب المعارضة، من أجل تشكيل حزام من القوى السياسية المختلفة الرافضة تمرير قانون المصالحة، لاشتراطها استبعاد بعض الأحزاب، وفي مقدمتها "المؤتمر من أجل الجمهورية" و"التكتل من أجل العمل والحريات". وبموقفها هذا، تضيع الجبهة، وللمرة الثانية، إمكانية بناء قوة معارضة قادرة على فرض تنازلات على التحالف الحاكم في تونس، والسبب حساباتها التي لا تخلو من موقف مؤدلج، لا تبرره المصلحة السياسية، أو الوطنية، في ظل حاجة المشهد السياسي التونسي، اليوم، إلى الخروج من حالة الاستقطاب الثنائي التي يشكلها "النهضة" و"نداء تونس".
وعلى الرغم من أن الجبهة الشعبية تملك بعض أوراق القوة التي لا يمكن إغفالها، سواء من خلال حضورها في النقابات أو منظمات المجتمع المدني، بالإضافة إلى تمثيليتها من خلال 15 نائباً في مجلس النواب، وتولي أحد نوابها رئاسة لجنة المالية، إلا أنها تبدو وكأنها لا تحسن استخدام أوراقها، وأن الضغط الذي تمارسه على الحكومة لا يمكن أن يؤدي إلى تحقيق أهدافها، بعيداً عن التنسيق مع باقي قوى المعارضة، وهو ما لا ترغب فيه على ما يبدو بالنظر إلى مواقفها الأخيرة. تميز أداء الجبهة الشعبية، ومنذ انتخابات أكتوبر 2014، بالتذبذب واضطراب المواقف، وهو أمر سببه عدم وضوح الرؤية من ناحية إستراتيجية، فهي، من ناحية، لا ترغب في التصعيد ضد حليفها السابق "نداء تونس"، كما لا تريد التحالف مع من تعتبرهم خصوم الأمس (وتحديداً حراك شعب المواطنين والتكتل). وفي الوقت نفسه، هي لا ترتاح لوجود حزب النهضة في التحالف الحكومي، وكل هذه التناقضات بين الرغبات والأهداف، جعلت الأداء غير مستقر، وحضورها في الساحة السياسية غير فاعل بالشكل الذي كان عليه فعلها زمن حكم الترويكا. والمعروف أن اليسار التونسي يتميز بقدراته الاحتجاجية التي لا تُنكر، غير أنه يفتقر إلى البصيرة السياسية التي تجعله يخرج من شرنقة العداوات الدائمة لبعض القوى، والانتقال إلى الأداء السياسي الأكثر حصافة، ليتمكن فعلياً من تصدر المشهد السياسي للمعارضة التونسية في اللحظة الراهنة. فتعقيدات اللعبة السياسية وسرعة تبدل المشهد وتغير التحالفات تستلزم أداء مرناً وحسابات ذكية للمصلحة، بعيداً عن منطق الشعارات والأدلجة المفرطة.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.