في اليوم التالي (السبت)، قامت القوات الأميركية بغارة جوية ضد أحد قادة "داعش" في ليبيا، العراقي وسام نجم عبد زيد الزبيدي، المعروف بـ"أبو نبيل الأنباري"، وقالت وكالة الأنباء الإيطالية "انسا"، إنها كانت رداً على المذبحة التي نفّذها القيادي العراقي في صفوف التنظيم ضد المصريين الأقباط، وبسبب تخطيطه المباشر لمذبحة متحف باردو في تونس في مارس/آذار الماضي.
وذكرت الوكالة نقلاً عن مصادرها، أن الزبيدي كان حاضراً في الفيديو الذي صوّره التنظيم عن مذبحة الأقباط، على الرغم من تخفّيه خلف القناع. ولفتت الوكالة، إلى أنّ "التعاون الأميركي التونسي، مكّن من الربط بين الأنباري والهجوم الذي استهدف متحف باردو في تونس العاصمة، قبل أشهر وذهب ضحيته عشرات السياح الأجانب وبعض التونسيين".
هذا التعاون الأميركي ــ التونسي الذي يبدو فيه التنسيق مسبقاً، يشير إلى أنّ الأمر متجه نحو التغيير في منطقة شمال أفريقيا، أميركياً وفرنسياً بشكل خاص، باعتبار أنّ "كارثة باريس" ستجعل الجميع يستمع لما كانت تردّده تونس باستمرار، من أن "داعش على الأبواب وما يحدث في ليبيا سيؤثر على تونس، الشرفة المطلة على البحر المتوسط على بعد عشرات الكيلومترات من أوروبا، والجميع سيدفع الثمن".
لم يخف كيري، خلال زيارته إلى تونس، خشيته من أنّ "الجميع بالفعل أصبح معنيّاً بما يحدث في ليبيا، لأنّه يؤثر على تونس ومصر، ويمكن أن تكون له تبعات على كل المنطقة"، لافتاً إلى أن "داعش يتمدد في ليبيا بسبب حالة الجمود بين حكومتَي طبرق وطرابلس المتنازعتَين، وهو ما يدعو إلى تشكيل حكومة في أقرب وقت، أو أي وحدة شرعية تمسك بالحكم في ليبيا، وهناك مؤتمر دولي سيعقد في الأشهر القريبة حول ليبيا".
وخلال اجتماعات الحوار الاستراتيجي الذي جمع التونسيين بالأميركيين، الذين باتوا يعتبرون البلد الصغير "حليفاً رئيسياً"، إذ تشير الأرقام إلى أنّ تونس حصلت على حوالي 700 مليون دولار من المساعدات الأميركية، ما جعلها تحتل المرتبة الأولى في قائمة المساعدات في المغرب العربي، قال كيري، إن الإدارة الأميركية خصّصت 250 مليون دولار كمساعدات أمنية جديدة لتونس، مضيفاً أنّه ناقش مع الكونغرس الأميركي إمكانية الحصول على مساعدات إضافية إلى تونس.
في المقابل، يتساءل التونسيون عن الثمن، متخوفين من أن يُدفع من رصيد العلاقات التونسية الجزائرية الفاترة لهذا السبب أساساً. وتأكيداً لجديّة واشنطن في التعاطي مع هذا الملف، أشار كيري إلى أنّ التعاون لن ينتظر طويلاً وسيتم المرور إلى مرحلة التنفيذ سريعاً، إذ يصل عدد من الخبراء العسكريين إلى تونس خلال أسبوعين للنقاش والتعاون مع الاستخبارات وكيفية تقاسم المعلومات الاستخبارية بواسطة طائرات جوية استخباراتية، مع احترام سيادة تونس، مؤكداً أن الولايات المتحدة "لن تطلب من الحكومة التونسية القيام بما لا تريد، وإنما ستكون الإدارة الأميركية مستمعة للحكومة التونسية لتوفر لها ما تحتاج إليه هذه الأخيرة".
حاول كيري من خلال رسالة الطمأنة إلى عدم فرض شروط على تونس، تهدئة المخاوف الجزائرية، على الرغم من القلق إزاء "طائرة استخباراتية تحترم سيادة تونس". إلّا أنّ تونس التي ترى في الوضع الليبي تهديداً لكيانها، وأمام وضعيتها الاقتصادية الصعبة والعسكرية المحدودة، مستعدة لدفع أي ثمن لصيانة تجربتها الديمقراطية الوليدة، وإبعاد الاٍرهاب عن حدودها.
بدوره، عبّر وزير الخارجية التونسي، الطيب البكوش، بصراحة، عن "حاجة تونس إلى دعم أميركي في مجال مراقبة الحدود، خصوصاً مع ليبيا بهدف منع تسلّل الإرهابيين وإدخال الأسلحة". لم يغب الجانب الاقتصادي عن الحوار الأميركي التونسي، إذ تريد تونس من الولايات المتحدة أن تنفّذ وعدها بإعطائها قرض الـ500 مليون دولار، ودعم اقتصادها عبر حزمة ثالثة من ضمانات قروض لتعزيز الإصلاحات التي بدأتها الحكومة الحالية. وكانت الحكومة التونسية قد أعلنت منذ شهر نيّتها طلب خطة مساعدة جديدة بقيمة 1,7 مليار دولار على الأقل من صندوق النقد الدولي. في هذا السياق، تشير مصادر أميركية لـ"العربي الجديد"، إلى أنّ "الاتفاق على هذا الأمر والتفاوض على بنوده وتطبيقه، عمليّة معقّدة". واكتفى الطرفان بتوقيع وثيقة تعبير عن نوايا تتعلق بالضمان الأميركي للقروض التونسية لتحقيق مزيد من التنمية السريعة لتونس.
وقبل وصوله إلى تونس، التقى كيري بالمبعوث الأممي الجديد إلى ليبيا، الألماني مارتن كوبلر، واجتمع معاونوه، على مدى يومين (الثلاثاء والأربعاء) بمكونات المجتمع المدني في تونس، كما قصد أحد مساعديه وزارة الدفاع التونسية ووزارة العدل، ما يعني أن الاستثمار الأميركي في تونس أصبح واضحاً، في ظلّ تساؤلات حول تأثير ذلك على الوضع الداخلي في تونس، وعلى رهانات الأميركيين بشأن المستقبل السياسي لبعض الأطراف التونسية، شخصيات وأحزابا.
أمام هذا التقارب الأميركي التونسي، لن تقف أوروبا وفرنسا تحديداً، المنهمكة في مأساتها، متفرجة على ما يحدث في مجالها الحيوي في شمال أفريقيا، وأن تترك اللاعب الأميركي يتنقّل حراً ويحدد قواعد اللعبة بمفرده في "حديقتها الخلفية"، وفي "الكنز الليبي الكبير" ما بعد الثورة، إذ تراقب إيطاليا بقلق كبير التهديدات الأمنية التي بدأت تقترب مما يسمى بـ"هلال البترول الليبي"، وتريد ألمانيا أن تكون جزءا من أي حلّ ليبي.
في هذا الصدد، يشير الدبلوماسي التونسي السابق، عبد الله العبيدي في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أنّ هذا الإقبال الأميركي الكبير على تونس والذي يتجلى من خلال الوفد الرفيع المستوى الذي حلّ ضيفاً يوم الجمعة، لا يعني تونس مباشرة ولا مشاكلها "الصغيرة" مع المجموعات المتشددة، وإنما خوّلها وضعُها الجغرافي الاستراتيجي القريب جداً من أوروبا وليبيا والصحراء الإفريقية لتكون منطلقاً لدخول أميركي قوي في أفريقيا لمنافسة الوجود الصيني القديم نسبياً، إذ إنّ الأميركيين مقتنعون بأنّ فرنسا الحليف التقليدي لعدد من الدول الأفريقية، لا يمكنه مجاراة القوة التجارية الصينية الهائلة ولا حجم مساعداتها لأفريقيا. وبالتالي، فإن الرهان الأميركي على تونس والمغرب بانتظار وجودها الجديد في ليبيا، يعكس نظرة استراتيجية للحضور في منطقة تعتبر "صرّة" العالم، وأقل تكلفة بالنسبة إليهم.
كما لا يمكن إهمال عامل مهم في السياسة الأميركية الخارجية، وهو السياسة الداخلية والتنافس الكبير مع الجمهوريين قبيْل الانتخابات المقبلة. وبرز المعطى الليبي بقوة منذ أشهر بعد الضربة التي استهدفت القنصلية الأميركية في بنغازي عام 2012، ما أخضع المرشحة الرئاسية، هيلاري كلينتون للمساءلة 11 ساعة أمام لجنة التحقيق التي تسيطر عليها أغلبية جمهورية، لكن يبدو أن هيلاري قد تمكنت من الخروج من هذا التحقيق بأخف الأضرار.
وكانت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، محل انتقادات بعد خروج عدد من مراسلاتها الإلكترونية حول ليبيا إلى العلن، وكانت قد جمعتها مع ضابط المخابرات الأميركي، سيدني بومنتال، الذي كان موجوداً في ليبيا، والذي كان يعمل لصالح رجال أعمال أميركيين كانوا يستعدون لمرحلة ما بعد العقيد الليبي الراحل، معمّر القذافي.
وتُبرز كل هذه المعطيات، أن المتغيرات الأميركية في ليبيا وفي المنطقة، كبيرة جداً، وقد تُسرّع أحداث باريس في تنفيذها، وتخرج فرنسا من "تراخيها الليبي"، الذي يمرّ حتماً عبر تونس، التي تعلم جيداً بتعقيدات الوضع الليبي، وأقرب إلى عدد من أصحاب القرار داخل المجتمع القبلي الليبي، بهدف تحقيق أي مشروع مصالحة في ليبيا.