تُفرِدُ كثيرٌ من المؤسسات الثقافية- الحكومية وغير الحكومية في العالم- جوائز مهمة للترجمة، وتمنحها لمترجمين ولدور نشر ولمؤسسات، شأنَ ما حدث عربياً في آخر مؤتمر للترجمة والمثاقفة III بالدوحة حيث منحت "جائزة الشيخ حمد" لسنة 2016 إلى ثلاث مؤسسات إسبانية تُعنى بالترجمة من بينها مدرسة المترجِمين بطليطلة.
ولا غرو أن الجائزة ومثيلاتها تحفّز المشتغلين بالترجمة على مواصلة العمل؛ فالمردود المادي والمكافأة المعنوية يجعلان المترجِم والناشر يوليانِ إنتاجَهما عناية أكبر؛ تبدأ باختيار النص والاتفاق مع ذوي الحقوق بما في ذلك المترجِم الكفء، وتُتوَّج بانتقاء أفضل شكل لإخراج الكتاب ولتسويقه.
ولا تنتهي مهمةُ دُور النشر عند ذلك، فقد تُوقِّع عقوداً مع كُتّابِها لاحتكار حقوق الترجمة في حال رغبة جهات ما في نقل الكتاب إلى لغتها. يَحْدُث ذلك في الأغلب عند فوز الكاتب بجائزة متميّزة، أو عند بروز ظاهرة تُثير اهتمام القُرّاء المنتمين إلى ثقافة ولغة مغايرتيْن يرغَبون في أن يعرفوا عنها وجهة نظر أخرى.
وما يعرفُه الخائضون في النشر والكتابة والترجمة، في العالَم العربي، هو أنّ الجائزة أصبحتْ في العقدين الأخيرين ذات تأثير بيِّن في الكتابة؛ إذ لا يخفى أنها أضحتْ توجِّهها؛ فكثير من الروائيين والشُّعراء والمسرحيين صاروا أثناء الكتابة يستحضرون قارئَهم ليس في لغتهم الأصل فحسب، وإنما قارئهم المحتمَل والغريبَ في اللغتيْن الإنكليزية والفرنسية، على الأقل أيضاً، بمعنى أنَّ إمكانية ترجمتِهم تُلازِم العملية الإبداعية لديهم، وهو ما يُجهِض التفكير في الكائن البشري صدوراً عن العفويّ في الذات، فيُصبِح المؤلِّف مهووسا بالقارئ الغريبِ في اللغة المترجَمِ إليها افتراضا، حتى لكأنه المترجِمُ الذي عرَّفَنا بحاله الفيلسوف والتر بنجامين في "مهمة المترجم".
ولا يمكن أنْ يُتَنكَّر لأفضال جائزة الترجمة على كثير من الكُتّاب والمترجمين معا، فالمؤلِّف يكسب اعترافا أكيدا حينما يُترجَم، ولعلّ أوضح مثال لديْنا هو الروائي نجيب محفوظ، الذي حظي بترجمات كثيرة أهَّلتْه لكي يحظى بنوبل للآداب؛ في حين لم يتيسَّر ذلك لكثير من كُتابنا المرموقين، ولذلك تجد غير قليل من الأدباء يسعون إلى الترجمة وإلى الفوز بمُترجِم كفء، ولا أدل على ذلك من غابرييل غارثيا ماركيز، الذي أبى أنْ يستعجل، وفضَّل أن ينتظر أنْ تُتَرجَمَ له "مائة عام من العزلة" من قِبَل المترجِم الإنكليزي القدير غْرِيغُورِي رَابَاسَا، فكان أنْ فاز بعد ذلك بجائزة نوبل.
ومن الغرائبِ التي تعرفُها جائزة الترجمة في المغرب منْحُها لكُتُب تُرجِمتْ من العربية إلى لغات أجنبية، والاستمرار في النهج ذاته، بينما الأصل في الجائزة في مجال الترجمة أن تُشجِّع القارئ المغربي على الانفتاح على الآداب والمعارف العالمية، وأنْ تُروِّجَ للكِتاب الأجنبي المتَرْجَم من قبل دور النشر المغربية بالأساس إلى العربية، وإلا عُدَّ ذلك استلاباً صريحاً.
لكنّ اللافت في الترجمة أنّ جوائزها تُحجَبُ في بعض الأحيان، مثلما تُحجب في فنون عديدة، لكنْ إذا كانت بعضُ الجوائز قد تُرفَض مِن لدُن مَن مُنِحوها، والمثال على ذلك هو الروائي المصري صنع الله إبراهيم سنة 2003 (رفض جائزة القاهرة للإبداع الروائي احتجاجا على تَطبيع دولته مع الكيان الإسرائيلي عبر فتحها سفارة للأخيرة في مصر)، والقاص المغربي أحمد بوزفور سنة 2004 (رفض جائزة وزارة الثقافة المغربية "في ظل تردي ملف الديمقراطية وحقوق الإنسان في المغرب، وفي ظل تفاوت طبقي هائل وتدني الأجور، وتدهور الوضع الثقافي بسبب تفشي نسبة الأمية وانخفاض نسبة القراءة")، فالغريبُ لحد الآن أنه لم يُسمَع عالميًّا برفض أيّ مترْجِم لجائزة تُمنَح له، وهو ما يُثير سؤالَ الموقف لدى المترْجِم، ومدى ارتباطه بقضايا وطنه وانخراطه في النضال اليوميّ لمجتمعه.
*مترجم وأكاديمي مغربي