يعشق الرحّالةُ التنقل والحركةَ والاستقلال ومُصادَفَة الغريب، لذلك تُلازمه الغرابةُ في حله وترحاله، داخل مجتمعه وخارجه، لكونه يَحُلّ دوماً غريبَ الوجه واللسان والمَلبس والسلوك، فيَستعصي على "جهاز الدولة" - حسب دولوز - أن يضبطه ويسيطر عليه، نظراً لخلخلته النظامَ والعادة، ولإدخاله "الجِدّة" التي تُربك الوضع القائم، ثمَّ لأنه من جهته متمرّد، يَرى المدينة ومجتمَعَها غيرَ طبيعِيَيْن، يُقيِّدان حرِّيتَه، فيستهجن سلطتهما وأعرافهما وأنماط عيشهما.
ولعلّ هذا الموقف هو المفسِّر لاضطهاد الرُّحّلِ على مدى التاريخ مِن قِبل أنظمة الحُكم، التي عادة ما لا تتحمَّلُهم، فتسعى إلى ضبطهم والتحكُّم في حركتهم على أرضها؛ وتلك كانت حالُها دوماً مع الغجر، والهنود، وشعوب القوقاز، وجنوب سيبيريا، والطوارق، والمغارِبيّين، وأفارقة جنوب الصحراء، وغيرهم.
وجليٌّ أن الرَّحالة يُمثِّل، دون شك، مترجِماً ثقافيّاً بامتياز؛ ذلك ما يُفيدُه تأويلٌ بسيط لأطروحة هومي بابا في "موقع الثقافة"، والذي تجاوز النصَّ وفكرةَ الانتقال من لغة إلى أخرى، لِيتمثَّلَ الترجمةَ حركةً للبشر في فضاء للتعايش والاستمرارية في "الثالثية"، أو "الفضاء الثالث" الذي يَعرفُه المجتمعُ الغَربي، حيث يكون اللقاء بين المهاجرين وأصحاب الأرض، وما يَطبعُ فضاءَ اللقاء من خصوبة فنية ولغوية وعِرقية... بتلاقح الثقافتيْن وتفاعلهما، وما ينجم عنهما من تخصيب يُغني الاثنتيْن.
يَحُلُّ الرحّالة ضيفاً على الثقافة الأخرى مثلما يفد عليها النَّصُّ المترجَمُ، وعلى غرار ما يقتضي الرَّحالة الطارئُ من حسن وفادة ضِمن ما يُعْرَف بأدب الضيافة وأعرافها، يُطالِب النَّصُّ الوافِدُ بأنْ تُراعى حقوقُه حيثما حلَّ.
وإذا كان الرَّحالةُ الأديبُ يُعنى بالتأليف عن مَعيشه ومُشاهداته، فيُقرِّب عوالِمَ جديدة إلى القارئ، وفْق تمثُّلِه لها، فإنّ العمل نفسَه يقوم به المترجِمُ حين محاولته تقديم فَهْمِه للقارئ للجديد والمتميّز في الثقافة التي ستحتضن النصَّ المترجَم.
ومثلما يتحرَّك الرحالةُ بالتجربة، فيتوسط بين ثقافتيْن أو مجتمعيْن أو دولتيْن (كما حال ابن بطوطة في رحلتيْه إلى أفريقيا والأندلس)، يتحرَّكُ المترجِم بتجربة الوساطة ذاتها بين المؤلِّف والقارئ، فيمدّ الأخير بما قد يُسعفه في تغيير رؤيته للعالَم ووجهة نظره للأشياء.
وباستلهام دولوز، نَجِدُ الرِّحلةَ والترجمة كلتيهما تستخدمان "السرعة المُطْلقة"، لاستقدامهما معرفةً غريبة تُشبِه "البرق"، لكون الأخيرة تستطيعُ أنْ تَبْلُغَ الأعمقَ في الوَسَطِ الذي تخترقه بسرعة مذهلة، وأنْ تؤثِّر موظِّفةً "آلة الحرب" بصفتها معرفة مجرَّدة، تلك التي تَمنحُ "المقاومةَ"، أثناءَ التحرُّكِ في فضاء مفتوح، لِتَبْرُز الرِّحلةُ والترجمة نقيضتيْن لتطلُّعات السُّلطة، التي لا تتردّد بأجهزتها المتعدّدة في فرض سيطرتها وضبط محيطها.
يتفادى كِلا المترجِم والرَّحالة الاصطدامَ مع "جهاز الدولة" مُباشرة، لقدرة الأخيرة على القهر والقمع، فيُطوِّران بدورهما "المقاومةَ" عبر البحث عن "خطوط للفرار"، تُيسِّر لهما التسرُّب وإحداث الأثر حيثما يحُلّان، لِكونهما يتطلعان إلى التغيير واكتشاف الغريب وإدخال الجِدَّة.
ويتحرك الرَّحالةُ والمترجِم في مجالٍ تَتهدَّدُه السلطةُ دوماً بالزحف عليه وتسييجه واستعماره، فمثلما تُحاصِر هذه السلطةُ فضاءَ الأوَّل، لا تتردَّد في إجهاض خطاب الثاني. وهكذا يُضطرّ الاثنان إلى أنْ يفتحا جبهات للمقاومة عديدة ومتنوعة، بل تَجِدهما يُعلنان عن تحدّيات جديدة يَصْحَبانها بتنويع في أشكال مقاومتهما صُدوراً منهما عن "حركية" عفوية تَدفع، مَثَلاً، بالرّحالين تلقائياً إلى ملازَمَة الفضاءات المفتوحة، لارتيابهم في المُسيَّج منها، ولرغبتهم في الحفاظ على حركيَّتهم أي حرِّيتهم، ولإيمانهم بالتَّرحال بصفته ضامناً للتّحوَّل من حال إلى حال، وللقاءات لا نهائية بالمصادَفات والغريب.
اللافت في الأمر هو انتباه المترجِمين ومُتتبِّعي حركة الترجمة - في العَقْدين الأخيريْن - إلى واقع المترجِمين، خصوصاً مترجِمي الأدب منهم، والذين صار يُطلَق عليهم في عصر الشبكة العنكبوتية "الرُّحّل الرَّقميُّون"، أي أولئك الذين يشتغلون لحسابهم الخاص دون توافرهم على مكتب خاص.