يحضر هاجس العود الأبدي في الفكر الهندي من خلال فكرة التناسخ، التي ترى أن الأرواح لا تفنى بعد مغادرتها الأجساد، بل إنها تحضر في أجساد طبيعية أخرى من حيوانات ونباتات، وهذا يُرسّخ لدى المُؤْمِن بهذه الفلسفة وعياً بالديمومة واعتقاداً في الاستمرارية، لكن في ذات أخرى وإهاب آخر.
ونجد ضمن دارسي الأدب ومُبدعيه قامات سامقة لا تخفي إيمانها بفكرة التناسخ، لكن في مضمار الكتابة، لاعتقادهم في أنَّ لا شيء في الأخيرة جديد بالمطلق، وإنما هو حضور لنصوص في نصوص أخرى، أي أنَّ النصوص التي نعتقدُ أنها جديدة لا تكون سوى تجميعٍ وانتقاء لما في نصوص سابقة عليها، ومن هؤلاء الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، الذي كان لا يتحرَّج في أن يدَّعي ساخراً من نصوصٍ هي من إبداعه؛ أنه أكيدٌ قد تحصَّل على الجميل فيها من الإغارة على نصوص آخرين أثناء قراءاته، ثم أدرَجَها في نص يُعزى إليه الآن.
ويبدو لي هذا الفعل الإبداعي شبيهاً بما يُعرَف في الوعي البيئي بالتدوير أو "الرَّسْكلة" المشتق من الفعل الفرنسي Recycler، الذي يُفيد إدخال الشيء في دورة جديدة بعد انتهاء دورته الأولى، أي أنّ كلَّ شيء يُدوَّر إلى ما لا نهاية، ليُعادَ إنتاجُه في صيغة أُخرى. ولعلَّ أصلَ هذه الفكرة الفيزياءُ في تخصّصها الدينامي الحراري، التي اشتُهِر أحدُ علمائها الأفذاذ هو لَاڤْوَازْيِيه بقولة مفادُها أنْ "لا شيء يضيع، لأن كلَّ شيء يتحوَّل".
لكنّ التدوير في الأدب يختلف عن نظيره في مختلف مجالات النشاط البشري، فإذا كان الشيء الماديُّ في الأخيرة، مثلاً، ينتهي ويختفي كُلّيّاً، ليتحقَّق أو يحضر ثانية في شيء آخر، فإنه في الأدب يتميّز بخاصية بقاء ما يُتواضَع على نعته بالأصل في كامل صورته الأولى، وتحضر النصوص الأخرى التي تستلهم ذلك الأصل بأسماء الشخصيات والأمكنة والوقائع وغيرها ضيفاً جديداً على الكتابة، لتفرض ذاتَها بصفتها تكاثراً لذلك الأصل.
وما دامت قضايا الأدب، مثلما نردِّد دوماً، هي من قضايا الترجمة عموماً، فلا مُشاحَّة في ادِّعائنا أنّ الترجمة هي التجلي الأنصع للتدوير، فهي كانت ولا تزال نشاطاً تدويرياً بامتياز كبير، لأنها عدا عن كونها تسعى إلى إعادة إنتاج الشيء ذاته في صورة مغايرة لأصلها، الذي يُصاغ في لغة وثقافة هما غيرُ اللغة والثقافة والوسَط الذي يستقبله، وهذا من شبه المسَلَّم به، فإنّها في حدّ ذاتها تدوير، لكننا لا ننتبه إلى العملية إلا بعد بروز نظريَّاتٍ تُسعفُنا في إيجاد مُسوِّغ يؤيّد ما قد يُدَّعى.
ونسوق في هذا الباب مثال أدب الأطفال، الذي نراه أدباً تدويريّاً صريحاً في شقٍّ مهم منه؛ ونحن لا نقصد هنا الأدب المؤلَّف رأْساً لهذه الفئة العمرية تحديداً، وإنما نعني أدب الكِبار الذي يُقدَّم إليهم مُبسَّطاً، بما يلائم مُستواهم اللغوي والفكري، سَعياً إلى الارتقاء بلغتهم وذوقهم ووعيِهم وأخلاقهم، وطَلَباً لزرع حُبِّ أدبِهم القومي فيهم. ويندرج هذا النوع من الأدب المُعاد إنتاجُه، أو المَصوغُ مجدَّداً "بتصرُّف" أو "مُقتَبَساً" أو "مُيسَّراً" للقراءة، أو غيرها، مثلما نبَّهنا إلى ذلك في كلام سابق، ضِمن الترجمة داخل-لغوية، وفْق المُنَظِّر رومان جاكوبسون.
ونستدلّ على هذه الممارسة بكتاب الكُتب؛ "ألف ليلة وليلة"، الذي يُقَدَّم في ثقافتنا العربية للصِّغار بلغة مُبسَّطة. ويصدق الشيء نفسُه على الثقافات الأخرى، ففي العالَم الناطق بالإسبانية، مثلاً، تُقدَّم تحفة ثربانتيس "دون كيخوته دي لا مانْشَّا" للصِّغار في أسلوب مُيسَّر لغةً وعبارَةً، وتَصحَبُها رسومٌ توضيحية تزيينية تحفيزاً لهم ليُقبلوا على القراءة. وفي الوقت ذاته يُروَّج لتدوير كلماتٍ وأساليبَ تكاد تكون قد هُجِرتْ، لتستمرَّ في الحياة هي والأدب والثقافة اللذان أبدعاها، فيتحقَّق التدوير بصفته سيرورةَ تحوُّل مادَّةٍ تكون عُرضَة لعدم الاستعمال إلى تصييرها أخرى قابلة لأن تُستعمل.
وتبرز الأمثلة الدالة على التدوير في الأدب المسرحي، ففيه نجد، مثلاً، مسرحيات يونانية شأن "فيدرا" وغيرها، قد عولجتْ وقتها، لكنَّ الالتفات إليها لا يفتأ يتواصل إلى يومنا الحاضر.
الترجمة في أحد وجوهها تدوير صريح، لأنها تُحرِّر النصَّ من لغته وثقافته المحلية، لتُدخِله رحابةَ الكوني والشموليِّ، بإخراجه إلى الثقافات الأخرى للاحتكاك بها والاغتناء بروافدها في فضاء أرحب يفتحه على التجربة الإنسانية.