التجاذبات الروسية في المفاوضات السورية

13 ديسمبر 2017
+ الخط -
تراقب الولايات المتحدة الأميركية مجريات المفاوضات السورية في جنيف وأستانة بصمت مريب تارة، وبتصريحاتٍ مقلقةٍ للجانب الروسي تارة أخرى، وهي على الرغم من إعلانها أن الحل في سورية هو عبر المسار الأممي في جنيف، إلا أنها لم تطلب إيقاف المسارات الأخرى التي أسسّت لها روسيا بشراكاتٍ مع دول إقليمية فاعلة في الصراع السوري، والتي تهدف إلى تقويض الترتيبات الدولية والإقليمية التي تم التوافق عليها في بيان جنيف1 (2012)، وتالياً إجهاض عملية التغيير السياسي في سورية.
بيد أن الخطوات الأميركية الهادئة، والمبرمجة، والتي أسفرت عن سيطرتها على نحو نصف مساحة سورية، باتت تتجاوز ذلك، لاسيما مع تصريحاتها بأن مغادرة قواتها الأراضي السورية مرهون بإقامة الحل السياسي في هذا البلد، وأن أي إعمار في سورية لن يكون إلا بعد تحقيق الاستقرار السياسي، وأن هذا الاستقرار لا بد أن ينتج عن مفاوضات جنيف، الأمر الذي جعل الروس يبحثون بجديةٍ عن معادلة سياسية جديدة تحقق الشرط الأميركي، من دون أن تخل بالتفاهمات الروسية ـ التركية من جانب، وتعقّد العلاقة مع إيران من جانب آخر.
لهذا حرصت روسيا على الدفع باتجاه توحيد المعارضة في مؤتمر الرياض 2، وأعلنت عن تأييدها مسار جنيف في جولته الثامنة، على الرغم من مساعيها، قبل التصريح الأميركي، 
الرامية إلى تأجيل الجولة الثامنة، إلى ما بعد عقد مؤتمرها "الحوار الوطني"، في سوتشي في 2 ديسمبر/ كانون الأول 2017، ثم اضطرارها، بعد فشل مساعيها إلى إعلان تأجيله، إلى موعد غير محدد في الربع الأول من العام المقبل. وقد جعل هذا الوضع النظام السوري في مأزق، فبينما هو يرغب بتعطيل المفاوضات، حسب الرغبة الإيرانية، إلا أنه، في آن، لا يستطيع تجاوز التصريحات الروسية بشأن المشاركة الفعالة لوفده في جنيف 8، ليس لأن روسيا ترى بوادر الحل السياسي كامنة في تلك المفاوضات التي تأخذ بعدها الإعلامي فقط، من دون أن تفيد بأي تقدّم يذكر في الملفات الأساسية، وإنما لأن روسيا تحتاج فعلياً إلى كسب الوقت، لإعادة دراسة التموضعات الجديدة التي غيّرتها بوادر عودة العلاقات التركية ـ الأميركية، وسبل الاستجابة مع المطالب الأميركية بشأن كف يد إيران بعيدأ عن الحدود مع حليفتها إسرائيل.
هكذا، وضمن المعطيات المستجدّة في العلاقة مع تركيا تجد روسيا نفسها أمام خيارات تفاوضية جديدة، إذ عليها أن تحقق الرغبة الأميركية في جلوس "قوات سورية الديمقراطية" على طاولة التفاوض على الحل في سورية، وأن تستبعدها، في الوقت نفسه، من أي عملية تفاوضية بشأن مستقبل نظام الحكم في سورية، إرضاء لتركيا، وحفاظاً على إنجاح مؤتمر سوتشي الذي لن تحضره أنقرة، مع المعارضة القريبة منها، فيما إذا كان كرد سورية الديمقراطية طرفا فيه، وهو ما جعل موسكو ترى في تمديد الجولة الثامنة فرصةً لها في تعقيد العملية التفاوضية، وتشتيت الجهود الأممية، بانتظار استنفاد الوقت، وانتظار معادلات ميدانية وسياسية جديدة، مواتية أكثر لها، ولترتيباتها، ولما تعتزم القيام به عبر مؤتمر سوتشي المقبل، على صعيد الأطراف المحلية.
أما التفاوض الحقيقي الذي تتطلع إليه موسكو فهو مع الولايات المتحدة الأميركية، وبعيدأ عن أي مواجهاتٍ عسكريةٍ أو سياسية، حيث هيأت موسكو لنفسها الظروف الملائمة لتكون على طاولة مقايضات مصالح متبادلة مع واشنطن، صحيح أن منطلقها من سورية لكن ما ترمي إليه موسكو أبعد من الشرق الأوسط، وأقرب إلى ما قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، لتأخذ من جديد موضعها قطبا يقابل القطب الأميركي عالمياً، من خلال معالجة الملفات العالقة مع الولايات المتحدة (أوكرانيا والعقوبات التكنولوجية والدرع الصاروخي وأسعار النفط)، من باب أنها قوة عظمى، وليس مجرد طرفٍ يمكن توجيه عقوبات له.
ولعل الخيط الوحيد الذي تمسكه إدارة الرئيس بوتين اليوم، في هذه المساومة المفترضة روسياً، هو رأس النظام السوري الذي تفاوض على مقايضته مع كل ما سبق، وتحتفظ لنفسها بحق 
تقرير مصيره، إلا أنها تعرف أن ذلك لن يتحقق لها بعيداً عن التزامها بمفاوضات جنيف، ما حتّم عليها إلزام النظام بالمشاركة في الجولة الثانية. ولكن ضمن خطة التعطيل لأي تقدّم يمكن إحرازه بعيداً عن الحل الذي تتصوّره، وهو ما سبق أن قدمته في مخرجات منتدى موسكو (9 إبريل/ نيسان 2015)، الذي تحدث صراحة عن "تسوية الأزمة السورية بالوسائل السياسية على أساس توافقي وفق مبادئ جنيف 1"، طبعاً بالاستناد إلى الترجمة الروسية لبيان جنيف 1، التي تنفي الحديث عن الانتقال السياسي، وتسعى إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية عبر حوار وطني سوري- سوري.
ولعل مراجعة بسيطة لمخرجات الحوار الذي جمع كثيرا من مكوّنات وفد التفاوض الحالي (المشكل في مؤتمر الرياض 2) مع وفد النظام السوري في موسكو 2015، يوضح حالة الاطمئنان، بل وأسباب التعاطي الروسي الإيجابي مع المطالب الدولية في التزام مسار جنيف، لإنتاج حل سياسي للقضية السوربة، من دون أن تتراجع عن خطتها في عقد مؤتمر سوتشي، الذي يجمع بين المعارضة والنظام في قاعة واحدة، وتحت سقف الحل الروسي الذي يفترض أن يمهد لمفاوضات حقيقية بين روسيا وأميركا، لإعادة توزيع الحصص، وفق المسطرة الأميركية التي تهيمن على نصف المساحة السورية، من دون خسارة تذكر، بينما تترك ساحة المعركة لروسيا وحليفتها إيران، اللتين تتألمان من جراحهما، وتشيعان جثامين جنودهما بالمئات وبينهم ضباط وقيادات.
إلى ذلك، فإن المفاوضات السورية في جنيف ليست لعبة المفاوضين السوريين (نظاما ومعارضة) كما يعتقد بعضهم، أو يتوهم، إذ هي، في أغلب أحوالها، لعبة تفاوض بين الدولتين الكبريين في العالم، مع هامشٍ تتركانه لدولتين إقليميتين، هما تركيا وإيران، بعد أن اشتغلتا كثيرا على تحجيمهما، لكنهما حتماً يحتاجان لمن يأخذ الصورة من السوريين، وهم يوقعون على ما لم يذهبوا من أجله، ليس فقط في جنيف 8، ولكن في ما بعدها من أرقام.
930EB9D8-8BB0-4CDA-8954-FE630C4A380F
سميرة المسالمة

كاتبة وصحافية سورية، رئيسة تحرير جريدة تشرين سابقاً، نائب رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية