13 نوفمبر 2024
التاريخ الفلسطيني البصريّ في الأرشيفات الإسرائيلية
يصدر قريباً، مترجما إلى العربية، كتاب الباحثة الإسرائيلية، رونا سيلع، "لمعاينة الجمهور: الفلسطينيون في الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية"، عن مركز مدار الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية في رام الله.. هنا مقدمة الكاتب الفلسطيني، أنطوان شلحت، للكتاب بالعربية.
يضم كتاب "لمعاينة الجمهور: الفلسطينيون في الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية"، للباحثة رونا سيلع، أول بحث شامل حول الموضوع الذي يخوض فيه، وهو التاريخ الفلسطيني البصريّ والمكتوب في الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية. وتركز المؤلفة على مرحلتيْن زمنيّتيْن مركزيّتيْن ترتبطان بهذا التاريخ:
الأولى، مرحلة الحياة في فلسطين قبل عام 1948، والتنظيمات الفلسطينيّة وحرب 1948، والنكبة ونتائجها، والتي فُتحت معظم المواد المتعلقة بها بعد خمسين عامًا، أو بعد معركة قضائيّة لفتحها، ونُشرت في الطبعة العبريّة من الكتاب الصادرة قبل نحو عشرة أعوام (2009).
الثانية، المرحلة المُطلّة من أرشيفات وغنائم حرب أُخذت من بيروت في ثمانينيات القرن العشرين الفائت، وتصف المنفى الفلسطيني والنضال بعده. وبدأت المؤلفة بالتعامل مع هذه المرحلة عام 2001، وتناولتها بشكل مُقتضب في الطبعة العبريّة من هذا الكتاب، نظرًا إلى أنّ أعوامًا طويلة من المحاولات مرّت، قبل أن يُفتح قسمٌ من هذه المواد. وبما أنّ هذه المواد لم تُفتح إلّا في الأعوام الأخيرة، فقد قرّرت أن تشملها على نطاق أوسع في هذه الطبعة العربيّة.
وبالإضافة إلى فوائد هذا الكتاب الجمّة، بالأساس من ناحية المعلومات الموثوق بها، والواردة فيه، نقلًا عن مصادر أولى، هي في متناول يدي المؤلفة، فإن استنتاجاته الفكرية ليست أقلّ أهميةً واستبصارًا. وهي استنتاجاتٌ تحمل من الحدّة والوضوح قدرًا يعفينا من عناء استقرائها. ويبقى في مقدمها الاستنتاج القائل إن الاستعمار الصهيونيّ الكولونيالي لفلسطين، في 1948 كما في 1967، وصولًا إلى يومنا الراهن، لم يتم في الحيّز الجغرافيّ فحسب، بل أيضًا في حيّزيِّ الوعي والذاكرة. وضمن هذا السياق، يُنظر إلى الأرشيفات الكولونياليّة، على غرار الأرشيف الإسرائيلي، بصفتها مواقع لإنتاج الرواية التاريخية، بواسطة منظومات محو وإخفاء.
وتشير المؤلفة إلى أنه، على مرّ الأعوام، تراكمت محاولاتٌ لتحدّي الأرشفة والممارسات الكولونياليّة المتعلّقة بها، ولتشييد نموذجٍ قُوامُه التفسير ما بعد الكولونياليّ، وبالرغم من أنّ هذا النموذج ينطلق من داخل الأرشيف الكولونياليّ، فإنه يُنتج معرفةً بديلة، فهذا نموذج يقرأ ما في داخل الطبقات الكثيرة، البادية والمستترة، في الأرشيف الكولونياليّ، ويُغيّر المعرفة عن الماضي، ويوفّر أدواتٍ جديدةً لمواجهة الراهن. وهي تحرص، بدأب مثابر، على أن تنوّه بأن توجهها ما بعد الكولونياليّ ينطلق من مُناهضة مُعلنة للكولونياليّة.
وتجادل الكاتبة بأن المواد التي انكشفت عليها، خلال تأليف الكتاب، أُخضِعت لتوصيف الرواية الصهيونيّة/ الإسرائيليّة. وبناءً على ذلك، ثمة حاجة لتحريرها من القوة التي مورست عليها،
ومن الخطاب الكولونياليّ، وإعادتها إلى السياق الأصليّ، والسعي ضدّ المضامين التي يُنتجها الجيش والأرشيف العسكريّ. فضلًا عن ذلك، وبما يبعث على المفارقة، فإنّ المعلومات الكثيرة التي وجدتها في الأرشيفات العسكريّة التي كانت تنميطيّة، ومخصّصة لمساعدة المنظّمات اليهوديّة في حربها ضدّ الفلسطينيّين (احتلال وسيطرة ومراقبة)، ستُجرّد من مهمّتها الأوليّة، وستُعاد إلى أرشيف الخاضع للاحتلال. أمّا بخصوص الأرشيفات الفلسطينيّة المُحتجزة لدى المحتلّ، فتؤكد أنه ينبغي عدم الاكتفاء بممارسة الاستراتيجيّات ما بعد الكولونياليّة عليها وبتخليصها من تقاليد الرقابة والمحو والإخفاء، بل هناك ضرورة للمطالبة بإعادتها إلى أصحابها الأصليّين.
دلالة اسم الكتاب
ينطوي اسم الكتاب، "لمعاينة الجمهور"، على استجابة المؤلفة في الحاضر لتحدّي الماضي، ضمن الحقل الدلالي المرتبط بالصراع، فهي تشير، في هذا الشأن، إلى المعركة القضائيّة المتواصلة التي خاضتها، في مقابل جهاتٍ متعدّدةٍ في أرشيف الجيش والجهاز الأمنيّ، فيما يخصّ مطالبها بمعاينة وفتح وعرض محتويات الأرشيفات والصور والمجموعات والموادّ الفلسطينيّة المتنوعّة، أو ذات الأهميّة للفلسطينيّين، والموجودة في الأرشيفات العسكريّة أو الشرطيّة في إسرائيل. وفي إحدى الرسائل التي تلقّتها من مساعد المستشار القانونيّ في الجهاز الأمنيّ، والتي تتطرّق إلى طلبها معاينة أرشيف التصوير الذي غنمته (نهبته) إسرائيل من بيروت عام 1982، وسُمّي، كسائر المواد التي أُخذت من بيروت بالتسمية الخطأ: أرشيف منظمة التحرير الفلسطينيّة، جاء أنّ هذه المواد "مقيّدة" وفق القانون الإسرائيليّ، ولذلك فهي "غير مفتوحة أمام معاينة الجمهور في هذه المرحلة". وقد حصلت على ردٍّ مماثلٍ فيما يخصّ أرشيف "بيت الشّرق" في القدس. ففي يوم 10/8/2001، أغلقت الحكومة الإسرائيليّة عدّة مؤسّسات تابعة للسلطة الفلسطينيّة في منطقة القدس، من بينها "بيت الشرق". وقد غنمت القوات الإسرائيليّة عددًا كبيرًا من الوثائق المرتبطة بفترات مختلفة: شرائط فيديو، صور، خرائط، مواد محوسبة ومواد أرشيفيّة جمّة. وكانت الغاية من هذه المصادرة، وفق ما قالت السلطات الإسرائيليّة، "الإشارة إلى صلةٍ مباشرةٍ قائمة بين بيت الشرق والسلطة الفلسطينيّة، خلافًا للاتفاقات الموقعة مع السلطة، والتي تقضي بعدم قيام هذه الأخيرة بأيّ نشاطات في منطقة القدس"!. وأُغلق المبنى بناءً على أمر صادر عن وزير الأمن الداخليّ الإسرائيلي. وفي رسالةٍ تلقتها من ضابطة وحدة شكاوى الجمهور في الشرطة الإسرائيليّة، ورد من مكتب المفتش العام فيما يخص أرشيف "بيت الشرق" الذي تحتجزه الشرطة الإسرائيليّة ما يلي: "عمومًا، ليس للجمهور حقّ في معاينة هذه الوثائق". ومع أنها تكرّر الإعراب عن أملها أن تُعاد وثائق "بيت الشرق" إلى أصحابها بسرعة، مثل سائر الممتلكات الثقافيّة الفلسطينيّة التي تحتجزها إسرائيل منذ عام 1948، فإنها لا تخفي تعويلها على أن تؤدي معاينة الجمهور لهذه الوثائق البصريّة والمكتوبة إلى تعميق الوعي المفقود والمُصادر حيال الرواية التاريخية الفلسطينية للصراع، والتي تؤكّد مرارًا أن إسرائيل تخاف منها، ومن أيّ مادّةٍ يمكن أن تدعمها، حتى لو أنتج هذه المادة أو صوّرها أو كتبها يهود/ إسرائيليّون، وهي تستثمر جهودًا جمّة في إخفائها من الحيّز. يُضاف إلى ذلك أنّ المواد التي ينتجها فلسطينيّون تعكس الوضع الكولونياليّ، عبر ما تراه عينا الخاضع للاحتلال، وكذلك وضع التمرّد الذي يحارب فيه الخاضع للاحتلال من أجل هُويته، وتشييد حكايته الخاصّة.
أخيرًا، تؤكد المؤلفة أنّ موادّ وأرشيفات فلسطينيّة كثيرة ما تزال مغلقة في الأرشيفات
العسكريّة، وأنّ المعركة في مقابل أرشيف الجيش الإسرائيليّ ما تزال طويلة. وضمن ذلك، تكشف النقاب عن وجود صور جويّة التقطتها جهات إسرائيلية للمدن والبلدات الفلسطينيّة قبل عام النكبة في 1948، وتشمل توثيقًا شاملًا للوجود الفلسطينيّ قبل تلك النكبة. وهي توفّر معلوماتٍ جمّةً عن الحياة النابضة في فلسطين، والانتشار الجغرافيّ الواسع قبل النكبة. ولذا، هي تشكّل، في الوقت عينه، شاهدًا على حجم الدمار الذي حلّ بالكيان الفلسطينيّ. ووفقًا لما تقول، فإنّ هذه الصور هي بمثابة التوثيق الأوسع الأخير للانتشار الجغرافيّ الفلسطينيّ الذي يتيح إمكان إدراك خارطة البلد وفهما من نظرة طائرٍ قبل النكبة. ومع أنّ هذه الصور اُلتقطت لغاياتٍ تتعلّق بالاحتلال الكولونياليّ، وكي تبيُّن الاتجاهات والحركة في أثناء الاحتلال، إلّا إنّه بالإمكان اليوم عكس هذه الغايات، واستخدامها هيكلة المعرفة المتعلّقة بحياة الفلسطينيّين قبل 1948. ويمكن بواسطتها اكتساب المعرفة بخصوص كلّ قرية، مثل مبناها المعماريّ وموقعها الجغرافيّ وطابعها الطوبوغرافيّ، وكثافة السكان فيها، والزراعة فيها ومميزاتها، والطرق المؤديّة إليها، وغيرها. كما أن بالإمكان وصل مئات الصور الجويّة ببعضها بعضا، وفقًا لموقعها على الخارطة، وهيكلة صورة مركّبة ودقيقة، تحوي تقديرًا لحجم الوجود الفلسطينيّ قبل عام 1948. أي أنّه بالإمكان هيكلة خارطة فوقيّة، تتيح إمكان وصف الوجود الفلسطينيّ، والتركّز، حسب الحاجة، في مناطق معيّنة في أرجاء البلد، أو وصف البلد بأكمله. وتتميّز هذه الصور، كذلك، بأهميّةٍ في توصيف تاريخ القمع الذي خضع له الفلسطينيّون.
كذلك قامت جهات إسرائيليّة، منها جهات عسكريّة، بتوثيق الاستيطان اليهوديّ في القرى الفلسطينيّة من الزاوية الصهيونيّة. لكن، وبنظرة استرجاعيّة، تكمن أهميّتها في رسم ملامح شكل تبديل مجموعة من السكان بمجموعة سكّانيّة أخرى، وفي توصيف التطهير العرقيّ. وتشدّد المؤلفة على أن هذه الصور هي الشاهد الأخير على القرى الفلسطينيّة، لحظاتٍ بعد استملاكها الماديّ والقضائيّ، وقبل أن تفقد هويتها الفلسطينيّة وترتدي "الهندام الإسرائيليّ". وأضحى سكّان القرى في عداد المفقودين، إلّا إنّ صور كثيرة تحوي القرى ببيوتها وحقولها الكاملة، وهي تُمكّن من الإطلال على ما كُبت وقُمع في الذاكرة الجمعيّة الإسرائيليّة. ويمكن القول، بحسب ما تلفت، إنّه وعلى خلاف قانون أملاك الغائبين من عام 1950، الذي صادر ملكية الفلسطينيّين على أراضيهم وممتلكاتهم، وسعى إلى محوهم من الوعي العام، فإنّ هذه الصور تشير إلى عدم القدرة على إخفاء الحضور الفلسطينيّ، حتى بعد غياب السكّان. وفي الفترة الأولى، حافظت قرى كثيرة على هويّته من جهة طابعها المعماريّ والجغرافيّ والزراعيّ، ولم تنجح الدولة في إخفاء هذه الهويّة إلّا بعد مرور وقتٍ كثير. وعلى مرّ الأعوام، غيّرت هذه القرى نسيجها وطابعها ومميزاتها. وقد طرأت تغييراتٌ أيضًا على الأراضي التي انتقلت إلى أيدٍ يهوديّة، في شكل استصلاح هذه الأراضي وأنواع المحاصيل ومبنى البلدة الريفيّة. وبدأ المنظر العام الذي يميّز الضواحي الزراعيّة الفلسطينيّة بالتبدّل، واكتسب سمات استيطان الضواحي/ الأطراف الزراعيّ الإسرائيليّ. وبناء عليه، توضح مقارنة الصور التي تصف الاستيطان اليهوديّ في القرى، بصور تلك القرى حين كان يسكنها الفلسطينيّون، هي الأخرى، بشكل بصريّ وبقوة كبيرة، الانكسار الحادّ الذي حدث.
سياسة كشف المواد الأرشيفية
في كانون الثاني/ يناير 2018، أثار تقرير جديد كتبه مدير "أرشيف الدولة" في إسرائيل،
يعقوب لزوبيك، وتطرّقت سيلع إليه، جدلًا واسعًا بين الدوائر ذات الصلة في شأن سياسة كشف المواد الأرشيفية لمعاينة الجمهور، في هذا الأرشيف تحديدًا، والأرشيفات الحكومية الرسمية عمومًا، حيث كتب أن هناك معيقاتٍ كثيرةً تمس بسير العمل السليم في الأرشيف، وهي مرتبطةٌ بمنهج كشف المواد وإتاحتها أمام الجمهور للاطلاع. واستهلّ تقريره قائلًا إن إسرائيل "لا تعالج المواد الأرشيفية الخاصة بها كما يُتوقع من دولة ديمقراطية"، فالأغلبية الساحقة من المواد الأرشيفية مُغلقة، ولن يتم فتحها أمام الجمهور للأبد. أما المواد القليلة التي يتم عرضها، فتكون ضمن تقييداتٍ غير معقولة، حيث لا توجد رقابة عامة على إجراء الكشف، وليست هناك أدنى شفافية.
ووفقًا لما ورد في هذا التقرير، من بين نحو ثلاثة ملايين ملف في "أرشيف الدولة" هناك 1.7 مليون ملف مرّ موعد منع نشرها بموجب للقانون. وهناك مليون ملف ليس هناك تاريخ لموعد انتهاء منع نشرها. وهناك 330 ألف ملف تحت غطاء السرية، ولم يجر بحثها بعد. وهو يقدّم معطياتٍ مختلفة، ليصل بالنتيجة إلى أنه لو افترضنا أن العامل يمكنه العمل لكشف ألف ملف في السنة، فإن الوضع الإسرائيلي في تخلفٍ يزيد عن ألفي سنة عمل لكشف ما لم يتم فحصه بعد. ووتيرة عملية كشف الوثائق في الأرشيف هي تقريبا عشرة آلاف ملف سرّي في السنة، وعشرون ألف ملف انتهى الموعد القانوني لعدم كشفها. وهو يؤكد أن هذه المعطيات تتطرّق إلى الملفات الورقية فقط حتى مطلع القرن الحالي. ولا تشمل المواد الرقمية المختلفة. وبالنسبة لأرشيف الجيش الإسرائيلي، هناك مليون و146 ألف ملف فات موعد منع كشفها طبقًا للقانون، لكن من بينها تم فتح خمسين ألف ملف فقط. ووتيرة العمل هناك هي نشر ألفي ملف في السنة فقط. ويتوصل هنا إلى استنتاج بأنه في ضوء هذا الوضع، فـ"معظم المواد في الأرشيفات الحكومية لن تفتح إلى الأبد".
ويورد التقرير ذرائع تستخدمها الجهات المسؤولة لمنع كشف معلومات معينة، منها أن "كشف الحقائق قد يشكل وسيلة بأيدي أعدائنا وخصومنا، بل قد يؤدي إلى إضعاف عزيمة أصدقائنا"؛ "كشف الحقائق قد يؤدي إلى إلهاب مشاعر السكان العرب في البلد و/ أو في المناطق الفلسطينية"؛ "كشف الحقائق قد يؤدي إلى إضعاف حجج الدولة في محاكم البلد أو المحاكم في العالم"؛ "هناك خشية من كشف معلومات قد يتم تفسيرها بأنها جرائم حرب إسرائيلية".
وما تستنتجه سيلع، لدى تطرّقها إلى منهج كشف المواد الأرشيفية المعمول به، هو أن إسرائيل تتخندق أكثر فأكثر في الوضعيّة الكولونياليّة. وبناء عليه، تتوصل إلى استنتاجٍ فحواه أنّ تحويل الأرشيف إلى موقع للمقاومة ما بعد الكولونياليّة هو أحد التحديات الماثلة أمام باحثي الأرشيفات الكولونياليّة الآن، إلى جانب ضرورة المطالبة بإعادة ما تتستر عليه هذه الأرشيفات من الكنوز الثقافية الفلسطينية إلى أصحابها الشرعيين.
الثانية، المرحلة المُطلّة من أرشيفات وغنائم حرب أُخذت من بيروت في ثمانينيات القرن العشرين الفائت، وتصف المنفى الفلسطيني والنضال بعده. وبدأت المؤلفة بالتعامل مع هذه المرحلة عام 2001، وتناولتها بشكل مُقتضب في الطبعة العبريّة من هذا الكتاب، نظرًا إلى أنّ أعوامًا طويلة من المحاولات مرّت، قبل أن يُفتح قسمٌ من هذه المواد. وبما أنّ هذه المواد لم تُفتح إلّا في الأعوام الأخيرة، فقد قرّرت أن تشملها على نطاق أوسع في هذه الطبعة العربيّة.
وبالإضافة إلى فوائد هذا الكتاب الجمّة، بالأساس من ناحية المعلومات الموثوق بها، والواردة فيه، نقلًا عن مصادر أولى، هي في متناول يدي المؤلفة، فإن استنتاجاته الفكرية ليست أقلّ أهميةً واستبصارًا. وهي استنتاجاتٌ تحمل من الحدّة والوضوح قدرًا يعفينا من عناء استقرائها. ويبقى في مقدمها الاستنتاج القائل إن الاستعمار الصهيونيّ الكولونيالي لفلسطين، في 1948 كما في 1967، وصولًا إلى يومنا الراهن، لم يتم في الحيّز الجغرافيّ فحسب، بل أيضًا في حيّزيِّ الوعي والذاكرة. وضمن هذا السياق، يُنظر إلى الأرشيفات الكولونياليّة، على غرار الأرشيف الإسرائيلي، بصفتها مواقع لإنتاج الرواية التاريخية، بواسطة منظومات محو وإخفاء.
وتشير المؤلفة إلى أنه، على مرّ الأعوام، تراكمت محاولاتٌ لتحدّي الأرشفة والممارسات الكولونياليّة المتعلّقة بها، ولتشييد نموذجٍ قُوامُه التفسير ما بعد الكولونياليّ، وبالرغم من أنّ هذا النموذج ينطلق من داخل الأرشيف الكولونياليّ، فإنه يُنتج معرفةً بديلة، فهذا نموذج يقرأ ما في داخل الطبقات الكثيرة، البادية والمستترة، في الأرشيف الكولونياليّ، ويُغيّر المعرفة عن الماضي، ويوفّر أدواتٍ جديدةً لمواجهة الراهن. وهي تحرص، بدأب مثابر، على أن تنوّه بأن توجهها ما بعد الكولونياليّ ينطلق من مُناهضة مُعلنة للكولونياليّة.
وتجادل الكاتبة بأن المواد التي انكشفت عليها، خلال تأليف الكتاب، أُخضِعت لتوصيف الرواية الصهيونيّة/ الإسرائيليّة. وبناءً على ذلك، ثمة حاجة لتحريرها من القوة التي مورست عليها،
دلالة اسم الكتاب
ينطوي اسم الكتاب، "لمعاينة الجمهور"، على استجابة المؤلفة في الحاضر لتحدّي الماضي، ضمن الحقل الدلالي المرتبط بالصراع، فهي تشير، في هذا الشأن، إلى المعركة القضائيّة المتواصلة التي خاضتها، في مقابل جهاتٍ متعدّدةٍ في أرشيف الجيش والجهاز الأمنيّ، فيما يخصّ مطالبها بمعاينة وفتح وعرض محتويات الأرشيفات والصور والمجموعات والموادّ الفلسطينيّة المتنوعّة، أو ذات الأهميّة للفلسطينيّين، والموجودة في الأرشيفات العسكريّة أو الشرطيّة في إسرائيل. وفي إحدى الرسائل التي تلقّتها من مساعد المستشار القانونيّ في الجهاز الأمنيّ، والتي تتطرّق إلى طلبها معاينة أرشيف التصوير الذي غنمته (نهبته) إسرائيل من بيروت عام 1982، وسُمّي، كسائر المواد التي أُخذت من بيروت بالتسمية الخطأ: أرشيف منظمة التحرير الفلسطينيّة، جاء أنّ هذه المواد "مقيّدة" وفق القانون الإسرائيليّ، ولذلك فهي "غير مفتوحة أمام معاينة الجمهور في هذه المرحلة". وقد حصلت على ردٍّ مماثلٍ فيما يخصّ أرشيف "بيت الشّرق" في القدس. ففي يوم 10/8/2001، أغلقت الحكومة الإسرائيليّة عدّة مؤسّسات تابعة للسلطة الفلسطينيّة في منطقة القدس، من بينها "بيت الشرق". وقد غنمت القوات الإسرائيليّة عددًا كبيرًا من الوثائق المرتبطة بفترات مختلفة: شرائط فيديو، صور، خرائط، مواد محوسبة ومواد أرشيفيّة جمّة. وكانت الغاية من هذه المصادرة، وفق ما قالت السلطات الإسرائيليّة، "الإشارة إلى صلةٍ مباشرةٍ قائمة بين بيت الشرق والسلطة الفلسطينيّة، خلافًا للاتفاقات الموقعة مع السلطة، والتي تقضي بعدم قيام هذه الأخيرة بأيّ نشاطات في منطقة القدس"!. وأُغلق المبنى بناءً على أمر صادر عن وزير الأمن الداخليّ الإسرائيلي. وفي رسالةٍ تلقتها من ضابطة وحدة شكاوى الجمهور في الشرطة الإسرائيليّة، ورد من مكتب المفتش العام فيما يخص أرشيف "بيت الشرق" الذي تحتجزه الشرطة الإسرائيليّة ما يلي: "عمومًا، ليس للجمهور حقّ في معاينة هذه الوثائق". ومع أنها تكرّر الإعراب عن أملها أن تُعاد وثائق "بيت الشرق" إلى أصحابها بسرعة، مثل سائر الممتلكات الثقافيّة الفلسطينيّة التي تحتجزها إسرائيل منذ عام 1948، فإنها لا تخفي تعويلها على أن تؤدي معاينة الجمهور لهذه الوثائق البصريّة والمكتوبة إلى تعميق الوعي المفقود والمُصادر حيال الرواية التاريخية الفلسطينية للصراع، والتي تؤكّد مرارًا أن إسرائيل تخاف منها، ومن أيّ مادّةٍ يمكن أن تدعمها، حتى لو أنتج هذه المادة أو صوّرها أو كتبها يهود/ إسرائيليّون، وهي تستثمر جهودًا جمّة في إخفائها من الحيّز. يُضاف إلى ذلك أنّ المواد التي ينتجها فلسطينيّون تعكس الوضع الكولونياليّ، عبر ما تراه عينا الخاضع للاحتلال، وكذلك وضع التمرّد الذي يحارب فيه الخاضع للاحتلال من أجل هُويته، وتشييد حكايته الخاصّة.
أخيرًا، تؤكد المؤلفة أنّ موادّ وأرشيفات فلسطينيّة كثيرة ما تزال مغلقة في الأرشيفات
كذلك قامت جهات إسرائيليّة، منها جهات عسكريّة، بتوثيق الاستيطان اليهوديّ في القرى الفلسطينيّة من الزاوية الصهيونيّة. لكن، وبنظرة استرجاعيّة، تكمن أهميّتها في رسم ملامح شكل تبديل مجموعة من السكان بمجموعة سكّانيّة أخرى، وفي توصيف التطهير العرقيّ. وتشدّد المؤلفة على أن هذه الصور هي الشاهد الأخير على القرى الفلسطينيّة، لحظاتٍ بعد استملاكها الماديّ والقضائيّ، وقبل أن تفقد هويتها الفلسطينيّة وترتدي "الهندام الإسرائيليّ". وأضحى سكّان القرى في عداد المفقودين، إلّا إنّ صور كثيرة تحوي القرى ببيوتها وحقولها الكاملة، وهي تُمكّن من الإطلال على ما كُبت وقُمع في الذاكرة الجمعيّة الإسرائيليّة. ويمكن القول، بحسب ما تلفت، إنّه وعلى خلاف قانون أملاك الغائبين من عام 1950، الذي صادر ملكية الفلسطينيّين على أراضيهم وممتلكاتهم، وسعى إلى محوهم من الوعي العام، فإنّ هذه الصور تشير إلى عدم القدرة على إخفاء الحضور الفلسطينيّ، حتى بعد غياب السكّان. وفي الفترة الأولى، حافظت قرى كثيرة على هويّته من جهة طابعها المعماريّ والجغرافيّ والزراعيّ، ولم تنجح الدولة في إخفاء هذه الهويّة إلّا بعد مرور وقتٍ كثير. وعلى مرّ الأعوام، غيّرت هذه القرى نسيجها وطابعها ومميزاتها. وقد طرأت تغييراتٌ أيضًا على الأراضي التي انتقلت إلى أيدٍ يهوديّة، في شكل استصلاح هذه الأراضي وأنواع المحاصيل ومبنى البلدة الريفيّة. وبدأ المنظر العام الذي يميّز الضواحي الزراعيّة الفلسطينيّة بالتبدّل، واكتسب سمات استيطان الضواحي/ الأطراف الزراعيّ الإسرائيليّ. وبناء عليه، توضح مقارنة الصور التي تصف الاستيطان اليهوديّ في القرى، بصور تلك القرى حين كان يسكنها الفلسطينيّون، هي الأخرى، بشكل بصريّ وبقوة كبيرة، الانكسار الحادّ الذي حدث.
سياسة كشف المواد الأرشيفية
في كانون الثاني/ يناير 2018، أثار تقرير جديد كتبه مدير "أرشيف الدولة" في إسرائيل،
ووفقًا لما ورد في هذا التقرير، من بين نحو ثلاثة ملايين ملف في "أرشيف الدولة" هناك 1.7 مليون ملف مرّ موعد منع نشرها بموجب للقانون. وهناك مليون ملف ليس هناك تاريخ لموعد انتهاء منع نشرها. وهناك 330 ألف ملف تحت غطاء السرية، ولم يجر بحثها بعد. وهو يقدّم معطياتٍ مختلفة، ليصل بالنتيجة إلى أنه لو افترضنا أن العامل يمكنه العمل لكشف ألف ملف في السنة، فإن الوضع الإسرائيلي في تخلفٍ يزيد عن ألفي سنة عمل لكشف ما لم يتم فحصه بعد. ووتيرة عملية كشف الوثائق في الأرشيف هي تقريبا عشرة آلاف ملف سرّي في السنة، وعشرون ألف ملف انتهى الموعد القانوني لعدم كشفها. وهو يؤكد أن هذه المعطيات تتطرّق إلى الملفات الورقية فقط حتى مطلع القرن الحالي. ولا تشمل المواد الرقمية المختلفة. وبالنسبة لأرشيف الجيش الإسرائيلي، هناك مليون و146 ألف ملف فات موعد منع كشفها طبقًا للقانون، لكن من بينها تم فتح خمسين ألف ملف فقط. ووتيرة العمل هناك هي نشر ألفي ملف في السنة فقط. ويتوصل هنا إلى استنتاج بأنه في ضوء هذا الوضع، فـ"معظم المواد في الأرشيفات الحكومية لن تفتح إلى الأبد".
ويورد التقرير ذرائع تستخدمها الجهات المسؤولة لمنع كشف معلومات معينة، منها أن "كشف الحقائق قد يشكل وسيلة بأيدي أعدائنا وخصومنا، بل قد يؤدي إلى إضعاف عزيمة أصدقائنا"؛ "كشف الحقائق قد يؤدي إلى إلهاب مشاعر السكان العرب في البلد و/ أو في المناطق الفلسطينية"؛ "كشف الحقائق قد يؤدي إلى إضعاف حجج الدولة في محاكم البلد أو المحاكم في العالم"؛ "هناك خشية من كشف معلومات قد يتم تفسيرها بأنها جرائم حرب إسرائيلية".
وما تستنتجه سيلع، لدى تطرّقها إلى منهج كشف المواد الأرشيفية المعمول به، هو أن إسرائيل تتخندق أكثر فأكثر في الوضعيّة الكولونياليّة. وبناء عليه، تتوصل إلى استنتاجٍ فحواه أنّ تحويل الأرشيف إلى موقع للمقاومة ما بعد الكولونياليّة هو أحد التحديات الماثلة أمام باحثي الأرشيفات الكولونياليّة الآن، إلى جانب ضرورة المطالبة بإعادة ما تتستر عليه هذه الأرشيفات من الكنوز الثقافية الفلسطينية إلى أصحابها الشرعيين.