البيانو ولحن اللجوء

25 مارس 2017
+ الخط -
كان لقهوة ذلك الصباح خصوصيتها الفريدة، فقد جمعتني مع صديقين؛ ندى ومحمد. بيروت وعبق الحضارة والحرب والحب كانا في ثنايا ضحكات وأحاديث وقلق ندى مهنا القادمة من بيروت. أما محمد القادم حديثاً من حلب، بعد أن تم تهجير سكانها، فقد كان مثقلاً بهموم الثورة والتاريخ والبحث عن أمل عند ناس المدينة الذين تركوها مرغمين، وما طُمر تحت حجارتها، وكعادته في الكلام الهامس، كنت أسمع بصعوبة ما كان يرويه لنا عن مشاريع ماتت مع موت مدينة حلب وتبخر الناشطين السلميين الذين حاول أن يحسنوا شروط حياة الناس وتحملهم للفقد، ودعم صمودهم، إلا ما ندر، مثل أصحاب القبعات البيضاء.

 

كادت النميمة الصباحية تنتهي عند هذه الحدود المفتوحة على أحلام حزينة، ملونة بدم السوريين واللبنانيين، وقصص اللاجئين السوريين في لبنان التي شغلت فضاءات الإعلام والسياسة. عندما حدقت ندى في الطرف الآخر من المقهى، وظننتُ للحظة أن نظرات الحب التي تشعّ من عينيها، ربما وقعت على صديقة قديمة، أو على شخص وسيم مثلي، فالتفتُ مستطلعاً وباحثاً عن شيء يستحق كل هذا الحب المتدفق من عيني صديقتنا اللبنانية، فلم أجد إلا "بيانو" أكثر "ختيرة" مني. عدت بنظراتي متأملاً وجه ندى المشبع بندى الحب، والذي يشبه ما نراه على وجوه القديسات، بالأيقونات المسيحية المعلقة في كنائس وأديرة الشرق العتيقة، وسألت: "هل تغازلين هذا "البيانو" يا سيدتي؟"

 

قالت وعيناها ما تزالان تحتضنان شيئاً مجهولاً: "قد لا تصدقان أنّ "بيانو" شبيهاً بهذا، شكلاً وماركة، قد رافق عائلتنا منذ عام 1860. فقد اقتناه، في فرنسا، أحد جدودي، وعندما عاد إلى لبنان اصطحبه معه، مع أشياء غربية أخرى، وتم توارثه في العائلة، من جيل إلى آخر، إلى أن وصل إلى بيتي، فأقام عندي عشرين عاماً، ورغم أصول البيانو الغربية فإنه لم يستطع أن يلغي عشقنا للموسيقى الشرقية، أثناء إقامته في بيتي. كنت، أحياناً، أسند ظهري إليه وأنا أسمع الحلبي صبري مدلل، والقدود الحلبية من فم صباح فخري، وتلاوات عبد الباسط عبد الصمد لبعض سور القرآن، قبل أن تقرر أختي نقله إلى مونتريال، وهو الآن في بيتها.

 

إن هذا "البيانو" يشبهنا، فيه بعض تاريخنا، وفي هجراتنا، وبعض عشقنا للموسيقى، وعلى مفاتيحه العاجية آثار بصمات أصابع أجيال من أسرتي، فكيف لا أحبه، يا صديقي!

 

حسدتُ ندى وأنا أتذكر كيف عجزتُ عن البقاء في سورية، بل حتى على الاحتفاظ بمكتبتي الشخصية، والكتب التي أحببتها، وكيف كان الأمن السوري يصادر ويحرق ويعتقل ويدمر كل ما يمت إلى السوري من تاريخ أو ثقافة أو حتى قصص حب.

 

كان همّ آل الأسد تحويل سورية الى مزرعة خاصة وسجن مظلم، ولم يكن في حسبان هذا النظام الظالم أن مجموعة أطفال درعاوية ستحطم جدران هذا السجن، في يوم يشبه هذا اليوم قبل ست سنوات، مرددة مع موسيقى منبعثة من حناجرها أجمل قطعة موسيقية يمكنها أن تطرب السوري "الشعب يريد إسقاط النظام".

 

65BA1F44-59A2-4240-B737-8FB8776C9F64
65BA1F44-59A2-4240-B737-8FB8776C9F64
ميخائيل سعد
ميخائيل سعد

مدونات أخرى