البرلمان التونسي.. من خير الدين إلى ثورة 14 يناير
لم تكن فكرة برلمان ديمقراطي وتعددي غريبةً عن الوعي الجمعي التونسي، حيث شكلت هاجساً أساسيا لدى الحركة الإصلاحية التونسية، منذ القرن التاسع عشر، فمنذ صدور دستور 1861(أول دستور عرفته المنطقة العربية الإسلامية)، كانت الإنتلجنسيا التونسية (من مثقفين وعلماء دين وسياسيين مصلحين، أمثال الشيخ محمود قابادو والشيخ سالم بوحاجب والوزير خير الدين التونسي) تؤكد على أهمية إدخال "تنظيماتٍ"، تضمن العدل والحرية، ولا يكون هذا إلا عبر اعتماد نظام الشورى وفرض علوية القانون وسلطته، بعيداً عن المجالس النيابية الشكلية. وقد ذكر خير الدين التونسي، في كتابه "أقوم المسالك"، نماذج كثيرة لدول أوروبية، تخلصت من الاستبداد، وسارت في نهج الحريات، وهو أمر لم يتحقق لها إلا عندما "نصب الأروباويون المجالس وحرروا المطابع"، معتبرا أن الفساد المستشري في الدول الإسلامية إنما هو نتيجة الاستبداد، لأن "إطلاق أيدي الملوك مجلبة للظلم على اختلاف أنواعه، كما هو واقع اليوم في بعض ممالك الإسلام". ومن هنا، فإن باب التقدم، بل وضمان الاستقلال، لا يكون إلا عبر إطلاق الحريات وضمان العدل "ثم إن العدل والحرية يجب أن يوضع لهما من النظم ما يضمن وجودهما ودوامهما"، ولا يكون ذلك بغير المجالس النيابية المنتخبة من الشعب، وقد حذر المصلح خير الدين من أن دول الغرب لا تريد أن ترى أنظمة سياسية حرة وعادلة في المناطق الإسلامية"، حتى صار بعضهم ينفر رعايا بعض الممالك الإسلامية من قبول التنظيمات التي رام ملوكها تأسيسها بأن يقولوا لهم: إن هذه التنظيمات لا تليق بحالكم، فرجوعكم إلى ما كنتم عليه أولى بكم، مع أن ذلك مخالف لقواعد سياسة بلدانهم".
وعلى الرغم من النكسة التي شهدتها تلك المحاولة الإصلاحية التي قادها خير الدين التونسي، خصوصاً مع دخول الاستعمار الفرنسي إلى تونس، فقد واصلت النخبة المتنورة التأكيد على المطالب المركزية للشعب التونسي، في الحرية وبناء نظام سياسي تعددي يضمن الحريات، وهو أمر تجلى في المطالب التي رفعتها حركة الشباب التونسي في مستهل القرن العشرين، وعبر عنها الشيخ عبد العزيز الثعالبي، في كتابه "تونس الشهيدة"، عندما طالب صراحة بدستورٍ حديث وبناء نظام ديمقراطي قائم على الاختيار الشعبي، وليتوج نشاطه السياسي بتأسيس الحزب الحر الدستوري التونسي، والذي يختصر، في مسماه، المطالب المركزية للحركة الوطنية التونسية. وعلى الرغم من الظروف الصعبة التي عاناها الشعب التونسي في ظل الاحتلال الفرنسي، فقد كان مطلب الديمقراطية ملازماً لمطلب الاستقلال الوطني، بصورة تكشف مستوى وعي جزء كبير من النخبة التونسية حينها بمدى الاقتران بين المطلبين، على أن هذا المطلب لم يكن مجرد ترف نخبوي، وإنما امتدت آثاره إلى الجماهير الشعبية، بصورة تجلت في المظاهرات الشهيرة ليومي 8 و9 إبريل/نيسان 1938، عندما تم رفع شعار واحد للمظاهرات الشعبية "لا بد من برلمان تونسي"، وسقط عشرات الشهداء في مواجهة عساكر الاحتلال.
وعلى الرغم من هذا الحراك والحيوية التي كانت تميز المجتمع السياسي التونسي في الفترة الاستعمارية، لم تكن خطوات الإصلاح السياسي ما بعد الاستقلال تستجيب فعلياً لطموحات الشعب التونسي، حيث بادر رموز الحكم الجديد إلى تأميم الحياة السياسية وحظر التعددية الحزبية (منع الحزب الشيوعي)، وإلحاق المنظمات الأهلية بالحزب الدستوري الحاكم، وبخدمة رئيسه الذي استوى على العرش حاكماً مطلق الصلاحيات، فلم تعرف تونس التعددية الحزبية، وظلت الانتخابات النيابية عملية شكلية، تفضي، دوماً، إلى وصول مرشحي الحزب الحاكم، ليصل الاستبداد السياسي ذروته، مع إلغاء إجراء الانتخابات الرئاسية، على الرغم من صوريتها، بتتويج الحبيب بورقيبة رئيساً مدى الحياة، وكان مبرر النظام حينها عدم أهلية الشعب لخوض التجربة الديمقراطية، وأنها ليست أولوية في ظل معركة التنمية والبناء الاقتصادي والاجتماعي، وهو تبرير كان المصلح خير الدين التونسي قد حذر منه في رده على ما أسماه "شبهة أنها من وضع الشيء في غير محله، لعدم قابلية الأمة لتمدناتها" مؤكدا "أن عامة غيرنا (يقصد الأوروبيين) الذين بلغوا بالتنظيمات غاية التمدن كانوا في مبدأ الأمر أسوا حالاً من عامتنا".
على أن نظام الحزب الواحد، وعلى الرغم من محاولته ضبط المجتمع ضمن آلية سياسية مغلقة، لم تمنعه (أي المجتمع) عن مزيد من تخليق حيويته السياسية خارج الأطر القانونية، فظهرت التنظيمات اليسارية والقومية والإسلامية، وأصبحت التعددية أمراً واقعاً، وإن لم يكن مشروعاً بمنطق الدولة المرتهنة للحزب الواحد والزعيم الأوحد. وضعية سوف تفضي الى أزمات سياسية حادة، ولن تجد لها مجالاً للتعبير العلني، خصوصاً بعد انقلاب 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987 الذي واصل سياسة سلفه القمعية، ومنع كل نفس ديمقراطي، على الرغم من حرص رأس النظام على خلق ديكور تعددي وهمي، لتجميل المشهد السياسي المظلم، فكانت الانتخابات تتم في موعدها كل خمس سنوات، ويتم إنفاق المبالغ المالية الضخمة على حملات انتخابية شكلية، في ظل نتائج محسومة سلفاً، يتم إعدادها في أروقة وزارة الداخلية، وتحول الحزب الحاكم حينها (التجمع الدستوري الديمقراطي) إلى آلة استبدادية ضخمة، تمارس الرقابة الأمنية، أكثر مما هي أداة حزبية، تشارك في الحياة السياسية، ولعل هذا ما يفسر أن اندلاع الثورة في تونس عرف تصعيداً واضحاً ضد مقرات الحزب الحاكم، بالتوازي مع مواجهة قوات البوليس وأجهزة القمع، فتم حرق مقرات "التجمع الدستوري"، في إعلان واضح للبعد السياسي للثورة التي، وإن كان منطلقها اجتماعياً، غير أنها عبرت عن ضيق الشعب التونسي من حالة الانغلاق السياسي والتصحر الحزبي التي تسود البلاد. ولذا، لم يكن غريباً أن يكون مطلب اختيار مجلس تأسيسي من أجل وضع عقد اجتماعي جديد شعاراً مركزياً في التحركات الثورية التي أعقبت هروب زين العابدين بن علي، فقد وعى الناس أهمية كتابة دستور، يضمن الحقوق والحريات، ويفتح المجال للتعددية السياسية، ويضمن حق الأحزاب في محاولة الوصول إلى السلطة، والتداول عليها سلمياً.
لقد عاد الوهج السياسي للمجتمع التونسي بعد الثورة، وتجلى خصوصاً في تشكل أحزاب وجمعيات كثيرة، وانفتاح المجال الإعلامي أمام وسائل إعلام جديدة، غير التي كانت قائمة أيام نظام الاستبداد. انفجار إعلامي أفضى إلى وفرة في الصحف والمجلات ووسائل الاتصال السمعية والبصرية، ودخول المجتمع في حالة نقاش عمومي، حيث أصبح الاهتمام بالشأن العام يشغل الجماهير الواسعة، بغض النظر عن طبيعة توجهاتها الفكرية، أو السياسية. مشهد عبر عن الديناميكية العالية التي يعرفها المجتمع التونسي الذي تغلب عليه فئة الشباب، وترتفع نسبة التمدرس بين سكانه، وهو ما منح المنافسة السياسية تشويقاً في ظل غياب الممارسات الاستبدادية، حيث لم تعد النتائج معروفة سلفاً، وأصبح الحق في الترشح مكفولاً للجميع من دون تمييز أو إقصاء. وعلى الرغم مما يبديه بعضهم من نقد لما يسميه "فوضى الأحزاب"، غير أنه لا أحد ينكر أن جو الحريات الذي تعيشه البلاد صنع بالفعل عهداً من أزهى السنوات التي عرفتها تونس، منذ استقلالها.
الانتخابات الجارية في تونس تحقيق لما سعى إليه رجال الإصلاح، منذ نهايات القرن التاسع عشر وإعلان عن قدرة الشعب التونسي على التعايش واختيار حكامه وممثليه، بكل حرية، بعيداً عن منطق الوصاية، وهي تجربة، وإن كانت لا تخلو من تجاذبات حيناً، ومن بعض العسر أحياناً، إلا أنها تشكل مختبراً فعليا لقدرة الشعوب العربية على بناء نظام ديمقراطي تعددي، من دون لجوء إلى العنف، أو تورط في منطق الفوضى. إذ كيف يمكن لهذه الشعوب أن تعتاد على منطق التعدد الديمقراطي، وأن تتمتع بالحريات، إن لم تمنح الفرصة أولاً لممارسة حقوقها. وبمماثلة بسيطةٍ، كيف يمكن للمرء أن يتعلم السباحة، إن لم يلق بنفسه في الماء أولاً، وكما يقول كانط "لا يمكن للمرء أن ينضج للحرية، ما لم يمنح الحرية أولاً ..".
وعلى الرغم من كل المصاعب، يدرك الجميع أن البديل عن النظام الديمقراطي هو الاستبداد، مع ما قد يخلقه من إمكانات للعنف، فإن كان "المواطن هو الذي يخلق الديمقراطية، فإن الديمقراطية بدورها تنتج المواطن"، كما يقول إدغار موران، بمعنى أن الممارسة وحدها هي الكفيلة بإيجاد وعي سياسي كافٍ، يمنع انحراف التجربة عن مسارها، ويحفظها من الانهيار.