البدء من الستين

19 ديسمبر 2014
يعيش وحيداً الآن، في عمر الستين وسيعيش (Getty)
+ الخط -
ماتت جارتنا. التمّ الحي بعد يومين من وفاتها على صراخ زوجها، يكسّر الأواني الزجاجية والصحون. يشتم، ويكفر، ويلعن. ينظر إلى السماء، يقول: "تفضلي تعي عمليلي قهوة". لم نرَه منفعلاً من قبل. حاول الجميع تهدئته، ولم يتوقف عن مخاطبة السماء. غادر الجميع، وطلب مني البقاء. جارنا الرجل الستيني، صديقي.. صديقي منذ أن كان يخبئ لي حبات الشوكولا في معطفه، ويحملني على رجليه مغنياً "عبد البوء.. طالع فوء".

قال لي إنّه لم ينم الليلة الماضية. شعر بالبرد، وانتظرها.. انتظرها حتى تستيقظ وتغطّيه كعادتها، لكنّها لم تفعل. كان خائفاً من أحلامه أيضاً. كانت تخبره في الصباح أنّه رأى حلماً جميلاً في الليلة الفائتة، لأنّها رأته مبتسماً في نومه. توقظه أحياناً، وتحضر له المياه. تخبره أنّه كان يرى كابوساً. تعرف أحلامه أكثر منه، تشعر بها، وتراقبها. لم تكن إلى جانبه تلك الليلة كي تحرس الأحلام، فلم ينم، ولم يحلم. 

يستيقظ ليجد قهوته جاهزة منذ أربعين عاماً. حاول اليوم أن يصنع قهوته. لم يعرف. لم يجد القهوة ولا الركوة، ولا عرف كيف يشعل الغاز. استصعب أن يطلب من ابنه. لم يطلب شيئاً من قبل. إذ لم تضطره هي إلى ذلك. جلس وحده عاجزاً ضائعاً. رجل ستيني لا يعرف كيف يصنع فنجان القهوة. بدأ يشتم، يكفر، وينادي عليها من السماء كي تصنع له القهوة.

كانت تجهّز له ثيابه، تختار عطره، وتلمع حذاءه. تصنع "الرز بحليب" الذي يحبّه. كانت ذاكرته أيضاً. تذكّره بالواجبات العائلية. تخبره بأنّ اخته مريضة، وتجبره على زيارتها. تذكرّه بعيد ميلاده، وميلاد ابنهما الوحيد. تفكر عن اثنين. تجمع المال ليقصدا الحجّ سويا، وتشتري أرضاً صغيرة لابنها. لم تشتكِ يوماً. ترى في خدمته الوسيلة الأفضل للتعبير عن الحب.

قال لي إنّه يشتاقها. يحبها لأنّها كانت بيته. يعتب عليها وعلى "الموت اللئيم" الذي لا يأخذ أحباءنا دفعة واحدة، بل على مراحل. يقول إن الموت لا يعني النهاية دائماً. سيبدأ من جديد. سيكتشف منزله، ويتعلّم أن يتغطى ويصنع قهوته وحده. سيتعلّم أن يعيش وحيداً الآن، في عمر الستين، وسيعيش.
دلالات
المساهمون