لم تعد كلمة اليسار تحمل نفس المعنى الذي ولدت منه، وأصبح المفهوم بحدّ ذاته قابلاً للتطويع والتشكيل بحسب الأحداث وجسامتها، لكن بما يُحافظ دائماً على هوس "التصدّي للإمبريالية" غايةً مقدّسة.
في أوروبا -كما في العالم العربي- يمكن الحديث جديّاً عن أزمة أخلاقية، ونفاق ظاهر عند اليسار الذي لشدّ ما اقترب من الوسط يكاد يلتقي باليمين المتصاعد لا سيما في أوساط الشباب.
في إسبانيا، مثل حال العديد من دول المتوسط (شمالاً وجنوباً) حيث لا يزال اليسار مسموعاً بجميع تدرّجاته، يمكن التماس هذه المقاربة حين يعلن اليسار "التقليدي" تأييده الأعمى لروسيا ورجُلها بوتين الواقف حارساً على شواطئ المتوسط الشرقية.
قبل أيام وتزامناً مع مشاهد التهجير الموسومة بحافلات العار الخضراء كتب سانتياغو ألبا ريكو، المفكر اليساري الإسباني، الذي بات مكروهاً من قبل يسار بلاده (لا حرج على اليمين بالطبع)، مقالةً لاذعة عَنونها بـ "حلب، مقبرة اليسار"، ونشرتها "مجلة كونتيكست"، تحدّث فيها عن أزمة اليسار في العالم.
يتساءل ألبا في مقالته عن الأسباب التي تدفع اليسار اليوم إلى الوقوف خلف الدكتاتوريين وهو الذي طالما وقف -أو حاول الوقوف- إلى جانب الضحية، ويذهب الكاتب إلى فضح نشاطاته وسعيه الدائم لإنكار مأساة السوريين عبر التبريرات والتواطؤات والأكاذيب. اليومَ يحتقر اليسارُ الضحية في سورية ويبصق عليها. هكذا حرفياً.
لا يجد ألبا تفسيراً عقلانياً لمواقف أولئك اليساريين الذين لا يرون في روسيا وإيران ومليشياتها والجماعات التكفيرية ومن يدعمها صورةً للقاتل نفسه، القاتل الذي لا يمكن أن تُخطِئه عينٌ بريئة.
"لم يحدث أبداً من قبلُ أن تصرّف اليسار في العالم، إزاء ثورة شعبية، بهذه الطريقة الخسيسة: ليس فقط هو لم يتضامن معها ولم يُكرّم أبطالها –بعد أن أُجهِضت- ولم يتأسّف حتى على اغتيالها، بل بصق في وجوه أُناسها واحتفل بموتهم وهزيمتهم".
إن هذا ما وضع اليسار في صفّ واحد مع اليمين الأوروبي المتطرّف بحسب تعبير ألبا الذي يرى أن ما أظهره اليسار حيال سورية هو من أقبح ما فعل عبر تاريخه، وكان لا بدّ له من اختلاق الأكاذيب دونما ورعٍ أو خجل، و"إنكار أن النظام السوري نظامٌ دكتاتوري، ولزم فوق هذا التأكيدُ على أن النظام السوري نظام اشتراكي وإنساني يقارع الإمبريالية.
لقد لزم إنكارُ أن ثورةً ديمقراطية شاملة، لا طائفية، انطلقت بمشاركة ملايين السوريين؛ لزم إنكار القمع الوحشيّ للمظاهرات، والاعتقالات، والتعذيب، والاختفاءات القسرية؛ لزم إنكار القصف ببراميل الديناميت واستخدام الأسلحة الكيماوية؛ لزم إنكار أو تبرير القصف الروسي..". لزم ولزم الكثير لتكون حلب "مقبرة اليسار".