03 اغسطس 2022
الانتخابات و"ماكيافليو" السياسة اللبنانية
يستعد اللبنانيون للانتخابات البرلمانية المقرّر أن تجري في السادس من مايو/ أيار المقبل، بعد انقطاع دام تسع سنوات، بسبب التمديد للمجلس الحالي مرتين. ولكن استعدادهم يبقى افتراضيا، نظرا لما بدأ يحاك، في الخفاء وفي العلن، من مناورات من الطبقة السياسية التي يريد بعضها أن يتحكم بنتائح الانتخابات سلفا، ويريد آخرون خلط الأوراق وقلب التحالفات، قبل الوصول إلى صناديق الاقتراع، الأمر الذي يرجح احتمال نسف الانتخابات، أو تأجيلها على الأقل. وهكذا بات كل فريق متربصا للثاني، بعد أن تحللت التحالفات السابقة التي تجسدت سنوات بفريقي 14 آذار و8 آذار.
بدأ هذا الأمر مع انتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية، مدعوما من طرفين أساسيين من أخصامه في فريق 14 آذار، أي تيار المستقبل بزعامة سعد الحريري وحزب القوات اللبنانية الذي يرأسه سمير جعجع. وعارضه طرف أساسي من حلفائه في 8 آذار، هو رئيس حركة أمل ورئيس البرلمان نبيه بري، وكذلك سليمان فرنجية حليف بشار الأسد وحزب الله، والذي جلس لسنوات ضمن تكتل عون النيابي. يومها لم يخف بري موقفه، لا بل أعلن، عشية الانتخابات الرئاسية، عن بدء ما سماه "الجهاد الأكبر"!
بدأ الكباش مع تشكيل الحكومة التي استمرت المفاوضات بشأنها شهرا ونصف الشهر، ثم انتقل إلى داخل الحكومة بشأن تلزيم ملفات النفط والغاز والكهرباء والاتصالات التي تفوح منها
رائحة الصفقات والهدر والفساد. ثم انتقل إلى قانون الانتخاب الذي دامت المفاوضات بشأنه قرابة ستة أشهر. وبعد أن أقر في منتصف يونيو/ حزيران الماضي، خرج رئيس التيار الوطني الحر (العوني) جبران باسيل يطالب بإدخال تعديلات عليه، مثيرا حفيظة برّي. التقى عون والحريري حول صفقة انتخاب الأول رئيسا مقابل عودة الثاني إلى رئاسة الحكومة، علما أن عون لم يقدم عمليا أي تنازل، فيما كان الثمن باهظا على الحريري الذي غادر موقعه السياسي، وأضر بعلاقاته مع حلفائه، وأغضب قاعدته الشعبية (والسنية) وأساء لعلاقته مع السعودية. ففي حين راح زعيما التيارين المتخاصمين سابقا، الحريري وباسيل الذي يشغل أيضا منصب وزير الخارجية، يعملان على تقاسم المشاريع والمغانم وتعيين الموظفين والمحاسيب، وقف حلفاء الحريري السابقون في "14 آذار" يستنكرون، ويفضحون ما يجري، فيما حاولت "القوات اللبنانية" التي ربطت نفسها بتفاهم مع عون أن تعارض بخجل من داخل الحكومة.
أما برّي، السياسي المحنك والمخضرم والأكثرهم "ماكيافلليةً"، فهو يلعب أوراقه بدقة، ويدوزن إيقاع معاركه، ويتقن اختيار التوقيت المناسب، فعندما يتعلق الأمر بعقد الصفقات، أو تمرير المشاريع، لا يعارض بشدة، وإنما ينتظر على الكوع. فلا مشكلة لديه في تقاسم الحصص، فهو صاحب شعار "ع السكين يا بطيخ". وإذا تلقى ضربة من أحدهم، كما حاله اليوم مع رئيس الجمهورية، يرد بضربةٍ مماثلة أو يفتح ملفا في مكان آخر. ويستند في ذلك إلى دعم (وتغطية) حزب الله الذي يعتبره الحصن (والحصان) الشيعي داخل الدولة. يقوم التفاهم بين الاثنين على دعم برّي شبه الكامل سياسة حزب الله الخارجية، وإذا حصل أي تعارض يبقى طي الكتمان، مثل عدم مشاركة بري في القتال في سورية إلى جانب بشار الأسد. مقابل دعم حزب الله رئيس المجلس في مجمل الملفات الداخلية، الوزارية والخدماتية تحديدا وفي مجال المناورات، كونه أكثر قدرةً على التواصل مع الجميع. فيما يحتفظ حزب الله بدور الوسيط والمدوزن من وراء الكواليس للعلاقات بين الحلفاء أنفسهم، فيتدخل عندما تخرج الأمور عن السيطرة. ويحاول في هذه الأيام ضبط الإيقاع بين رئيسي الجمهورية والمجلس النيابي الذي استفحل، بعد تسوية أزمة استقالة الحريري قبل أكثر من شهرين.
إجبار القيادة السعودية الحريري على تقديم استقالته من رئاسة الحكومة قوّى موقع رئيس الجمهورية وعزّزه، فقد اعتبر عون الأمر بمثابة "احتجاز لرئيس حكومة لبنان"، ونجح في التعاطي مع المسألة، وأوجد إجماعا داخليا قل نظيره. وكان بري أول المباركين والداعمين لموقف عون، وكذلك حزب الله، ما دفع حسن نصرالله لأول مرة إلى وصف الحريري "رئيس حكومتنا"! ولكن هذا الالتفاف حول موقف رئيس الجمهورية أدى غرضه، موقفا مبدئيا سليما، ودفاعا عن الحريري نفسه الذي يعتبره بري حليفا وصديقا. ولكن هذا الموقف لا يمكنه أن يدوم، إذ من غير المناسب إعطاء كل هذا الرصيد لعون الذي لم ينتخبه بري رئيسا، عدا عن أنه لا كيمياء بين الرجلين. كما أنه كان لا بد من منع توظيف هذا المناخ الإيجابي للعهد قبل أشهر من الانتخابات، وفي ضوء تحالف التيارين، العوني والمستقبلي.
ولا يسعى رئيس التيار العوني فقط إلى الفوز بمقعد في الانتخابات النيابية المقبلة، وحصد أكبر
عدد من المقاعد لتياره، وإنما عينه على رئاسة الجمهورية وريثا لحميه الرئيس الحالي. إذ إن المجلس الذي سينتخب في مايو/ أيار المقبل هو الذي سينتخب على الأرجح رئيسا جديدا في 2022. فإن "الصهر المدلل" يحاول، بالتالي، أن يلعب أوراقه، ويناور مثل برّي، وأحيانا عليه. وهو ربما أكثر "ماكيافلية" ووصوليةً، وإنما تنقصه الظرافة، وطريقة تعاطيه لا تلقى استحسانا وتجاوبا عند معظم اللبنانيين، حتى لدى كثيرين ممن ينتمون إلى تياره. ويعتبر باسيل أنه حاصل على دعم الطرف الشيعي الأقوى، أي حزب الله سياسيا وانتخابيا، والمطلوب الآن تمتين العلاقة السياسية والانتخابية مع الحريري، الحليف السني الأقوى، الذي يعتبره مدينا له، بعد عملية "الإنقاذ" التي خاضها عون برفضه قبول الاستقالة، وبالعمل على إعادته من السعودية إلى لبنان. وهذا ما هو حاصل فعلا، إذ يبدو الحريري أسير هذا الواقع، ويتصرف انطلاقا منه. فقد "وضع كل بيضه في سلة واحدة"، على ما يقول أحد السياسيين المقرّبين. وزاد التصاقه بمواقف رئيس الجمهورية إلى درجة أنه أحرج بري، وبدأ يثير امتعاضه. أي تحالف أو تنسيق بين باسيل والحريري، مدعوما وإن بطريقة غير مباشرة من حزب الله (المحكوم بعلاقته مع عون) ممكن أن يترجم أكثرية برلمانية في المجلس المقبل من شأنها أن تتحكم أيضا بانتخاب رئيس المجلس الجديد، أي بوضع (ومصير) بري نفسه.
لذلك، بدأ بري التحرك منذ الآن لقطع الطريق على سيناريو كهذا، لإعادة خلط الأوراق، مستفيدا من علاقاته الجيدة مع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي والزعيم الدرزي، وليد جنبلاط، الذي يحظى بكتلة نيابية توازي كتلة برّي نفسه. وكذلك علاقته بفرنجية وبـ"القوات اللبنانية" وبحزب الكتائب، ومع نوابٍ مسيحيين مستقلين، يريد باسيل أن يلغيهم. أيضا مع كتل صغيرة مثل نواب الحزبين، القومي السوري ونواب البعث، اللذين لا يجمعهما كثير من الود مع باسيل، وهم على الأرجح لم ينتخبوا عون رئيسا، وإنما اقترعوا بورقة بيضاء.
"الجهاد الأكبر" الذي أعلنه رئيس المجلس ضد رئيس الجمهورية مستمر، أما رئيس الحكومة وسط هذه اللوحة فيبدو كالمغلوب على أمره!
بدأ هذا الأمر مع انتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية، مدعوما من طرفين أساسيين من أخصامه في فريق 14 آذار، أي تيار المستقبل بزعامة سعد الحريري وحزب القوات اللبنانية الذي يرأسه سمير جعجع. وعارضه طرف أساسي من حلفائه في 8 آذار، هو رئيس حركة أمل ورئيس البرلمان نبيه بري، وكذلك سليمان فرنجية حليف بشار الأسد وحزب الله، والذي جلس لسنوات ضمن تكتل عون النيابي. يومها لم يخف بري موقفه، لا بل أعلن، عشية الانتخابات الرئاسية، عن بدء ما سماه "الجهاد الأكبر"!
بدأ الكباش مع تشكيل الحكومة التي استمرت المفاوضات بشأنها شهرا ونصف الشهر، ثم انتقل إلى داخل الحكومة بشأن تلزيم ملفات النفط والغاز والكهرباء والاتصالات التي تفوح منها
أما برّي، السياسي المحنك والمخضرم والأكثرهم "ماكيافلليةً"، فهو يلعب أوراقه بدقة، ويدوزن إيقاع معاركه، ويتقن اختيار التوقيت المناسب، فعندما يتعلق الأمر بعقد الصفقات، أو تمرير المشاريع، لا يعارض بشدة، وإنما ينتظر على الكوع. فلا مشكلة لديه في تقاسم الحصص، فهو صاحب شعار "ع السكين يا بطيخ". وإذا تلقى ضربة من أحدهم، كما حاله اليوم مع رئيس الجمهورية، يرد بضربةٍ مماثلة أو يفتح ملفا في مكان آخر. ويستند في ذلك إلى دعم (وتغطية) حزب الله الذي يعتبره الحصن (والحصان) الشيعي داخل الدولة. يقوم التفاهم بين الاثنين على دعم برّي شبه الكامل سياسة حزب الله الخارجية، وإذا حصل أي تعارض يبقى طي الكتمان، مثل عدم مشاركة بري في القتال في سورية إلى جانب بشار الأسد. مقابل دعم حزب الله رئيس المجلس في مجمل الملفات الداخلية، الوزارية والخدماتية تحديدا وفي مجال المناورات، كونه أكثر قدرةً على التواصل مع الجميع. فيما يحتفظ حزب الله بدور الوسيط والمدوزن من وراء الكواليس للعلاقات بين الحلفاء أنفسهم، فيتدخل عندما تخرج الأمور عن السيطرة. ويحاول في هذه الأيام ضبط الإيقاع بين رئيسي الجمهورية والمجلس النيابي الذي استفحل، بعد تسوية أزمة استقالة الحريري قبل أكثر من شهرين.
إجبار القيادة السعودية الحريري على تقديم استقالته من رئاسة الحكومة قوّى موقع رئيس الجمهورية وعزّزه، فقد اعتبر عون الأمر بمثابة "احتجاز لرئيس حكومة لبنان"، ونجح في التعاطي مع المسألة، وأوجد إجماعا داخليا قل نظيره. وكان بري أول المباركين والداعمين لموقف عون، وكذلك حزب الله، ما دفع حسن نصرالله لأول مرة إلى وصف الحريري "رئيس حكومتنا"! ولكن هذا الالتفاف حول موقف رئيس الجمهورية أدى غرضه، موقفا مبدئيا سليما، ودفاعا عن الحريري نفسه الذي يعتبره بري حليفا وصديقا. ولكن هذا الموقف لا يمكنه أن يدوم، إذ من غير المناسب إعطاء كل هذا الرصيد لعون الذي لم ينتخبه بري رئيسا، عدا عن أنه لا كيمياء بين الرجلين. كما أنه كان لا بد من منع توظيف هذا المناخ الإيجابي للعهد قبل أشهر من الانتخابات، وفي ضوء تحالف التيارين، العوني والمستقبلي.
ولا يسعى رئيس التيار العوني فقط إلى الفوز بمقعد في الانتخابات النيابية المقبلة، وحصد أكبر
لذلك، بدأ بري التحرك منذ الآن لقطع الطريق على سيناريو كهذا، لإعادة خلط الأوراق، مستفيدا من علاقاته الجيدة مع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي والزعيم الدرزي، وليد جنبلاط، الذي يحظى بكتلة نيابية توازي كتلة برّي نفسه. وكذلك علاقته بفرنجية وبـ"القوات اللبنانية" وبحزب الكتائب، ومع نوابٍ مسيحيين مستقلين، يريد باسيل أن يلغيهم. أيضا مع كتل صغيرة مثل نواب الحزبين، القومي السوري ونواب البعث، اللذين لا يجمعهما كثير من الود مع باسيل، وهم على الأرجح لم ينتخبوا عون رئيسا، وإنما اقترعوا بورقة بيضاء.
"الجهاد الأكبر" الذي أعلنه رئيس المجلس ضد رئيس الجمهورية مستمر، أما رئيس الحكومة وسط هذه اللوحة فيبدو كالمغلوب على أمره!