الانتحار في مصر.. رداً على سهير لطفي

13 ديسمبر 2019
+ الخط -



تشهد مصر منذ الانقلاب العسكري عام 2013 تزايداً ملحوظاً في معدلات الانتحار لا سيما بين الشباب، الأمر الذي يحرص النظام الحاكم على التقليل من شأنه، والتنصل من المسؤولية عنه، وذلك خشية أن يتسبب في ثورة عارمة تطيح به على غرار ما حدث بفعل انتحار التونسي طارق البوعزيزي عام 2010. تجد النظام يهون من شأن هذه المشكلة ويلقي بالمسؤولية على الفرد والأسرة والمجتمع، وذلك بواسطة عدد من أتباعه. وكان من هؤلاء الدكتورة سهير لطفي - أستاذة علم الاجتماع ومديرة المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية سابقًا، حين استضافها الإعلامي عمرو أديب المعروف بموالاته للنظام في برنامجه "الحكاية" بتاريخ 2 ديسمبر/ كانون الأول 2019، وذلك لتحليل الانتحار من منظور علم الاجتماع.

وكان من أبرز ما قالته الدكتورة سهير لطفي إن الانتحار ينجم عن أمراض ومشكلات وخصائص نفسية واجتماعية، وأنه مسؤولية الفرد والأسرة والمجتمع، كما نفت ارتباط الانتحار بالفقر أو الغنى. وبالرغم من صحة بعض ما قالته سيادتها، إلا أنه لا يمكن التسليم بعدم وجود علاقة بين الانتحار والفقر تحديدًا. ولا يمكن كذلك قبول تجاهل مسؤولية النظام الحاكم عن الانتحار. فهل هذا ما يخبرنا به علم الاجتماع حقاً؟

ولبيان ذلك يجب العودة إلى آراء أخرى في هذا الصدد، حيث من الثابت علميا تأكيد عبد الرحمن بن خلدون، مؤسس علم العمران البشري، أن "الظلم مؤذن بخراب العمران". ويفسر ذلك بأن ظلم الحاكم للرعية من عوامل خراب العمران البشري كياناً وإنساناً وأوطاناً. كما أكد مؤسس علم الاجتماع إيميل دوركايم المعنى نفسه بقوله إن الانتحار ينجم عن خطأ ما في النظام، وقوة تتجاوز قدرات الفرد، وأن الأنظمة القمعية تدفع أفرادها للانتحار بشكل متزايد.

ومن المتخصصين المعاصرين في علم الاجتماع أكدت الدكتورة عزة كريّم - أستاذة علم الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، وذلك في حديث لها مع وكالة الأناضول في ديسمبر 2014، أن المعاناة الشديدة والضغوط الاقتصادية والاجتماعية وغياب العدالة من أهم أسباب الانتحار. 

كما أصدرت المؤسسة العربية لدعم المجتمع المدني وحقوق الإنسان في يونيو/ حزيران 2019 تقريراً عن الانتحار في مصر، أكدت فيه أن الوضع الاقتصادي المتدني من أبرز أسباب الانتحار. وكذلك وثقت الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان تسع حالات انتحار في مصر في يناير/ كانون الثاني 2019 كلها بسبب الفقر.

ومن ثوابت علم الاجتماع كذلك، أنه لا يمكن فهم وتحليل السلوك الفردي والظاهرة الاجتماعية بمعزل عن سياقهما العام والبيئة المحيطة، بما في ذلك العوامل السياسية والاقتصادية والثقافية.. إلخ. فكيف إذن يمكن تفسير التناقض بين هذه الآراء من ناحية، وما قالته الدكتورة سهير لطفي من ناحية أخرى؟ وما تفسير قول الأخيرة إن الانتحار لا علاقة له بالفقر، وكذلك تجاهلها لمسؤولية النظام الحاكم عنه؟

وفي تصوري أنه من سخرية القدر أن يتم اختيار الدكتورة سهير لطفي تحديداً لمثل هذا التبرير، وتحميل المنتحر وأسرته مسؤولية الانتحار، خاصة أن تاريخ سيادتها المهني لا يخلو من واقعة ظلم وفساد إداري ومهني وقانوني، كادت فيها أن تكون هي نفسها سببًاً في حالة انتحار مماثلة. 

 

لا يمكن لأي متخصص موضوعي في علم الاجتماع أن يتجاهل مسؤولية النظام الحاكم عن ارتفاع معدلات الانتحار في مصر منذ الانقلاب العسكري 2013، وذلك في ضوء سياساته الاقتصادية غير الرشيدة التي أدت إلى ارتفاع معدلات الفقر والبطالة والعجز عن إشباع الحاجات الأساسية للمواطنين، فضلاً عن السياسات الأمنية القائمة على القوة الغاشمة والقمع وتكميم الأفواه. تلك السياسات التي أدت إلى تكريس اليأس والإحباط وفقدان الرغبة في الحياة، وبالتالي تزايد حالات الانتحار.

إن الحل الأمثل لأي مشكلة يتطلب بالضرورة القضاء على أسبابها. لذا فعلاج الانتحار يتأتى بالقناعة بأنه ليس السبيل الأمثل للخلاص من ظروف حياتية قاهرة، وبأن الخلاص الحقيقي هو في القضاء على تلك الظروف وإسقاط النظام الذي يوجدها ويكرس لها، وكذلك يرتبط بالإيمان بأن حياة الشباب أكثر قيمة وجدوى من نظام يضعفهم بالفقر والجهل والمرض، ويحبطهم بالبطالة وتدني الدخل وتأخر سن الزواج وارتفاع تكاليف المعيشة والتمايز الطبقي والفئوي، فضلاً عن الأمراض الاجتماعية والنفسية الناجمة عن سياساته. ذلك النظام الذي يقتلهم برصاص أجهزته الأمنية في البيوت والشوارع، ويقتلهم بالتعذيب والإهمال الطبي في أقسام الشرطة والسجون، ويقتلهم بأحكام إعدام جائرة.

وحين ينجح الشباب في بناء وتطوير قدرات ذاتية وتنظيمية وحراكية واعية، ويستطيعون بها القيام بالموجة الثانية من ثورة يناير 2011 لإسقاط حكم العسكر الذي لا يكترث بهم، وحين يستبدلونه بآخر مدني ديمقراطي يوفر لكل المصريين العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، فإنه من المرجح حينها أن تختفي ظاهرة انتحار الشباب في مصر، أو على الأقل تنخفض معدلاتها كثيرًا.