تخوض تونس اليوم بثقة ثاني تجاربها الديمقراطية رغم التحديات التي تواجهها، ويطرق التونسيون باب الانتخابات البرلمانية التي يأملون فيها بمرحلة جديدة أفضل من سابقاتها على كل المستويات الاجتماعية والسياسية والأمنية وخصوصاً الاقتصادية.
وتواصل تونس تقدمها الملحوظ في ربيعها السياسي، مقارنة بدول الربيع العربي الأخرى، إلا أنها أصبحت على وشك أصعب اختبار في الوقت الراهن وهو العبور من مأزق الاقتصاد، فهل ستستفيد التجربة الوليدة من التقدم والاستقرار السياسي فينعكس بالإيجاب على هذا الملف؟ أم سيعرقل الاقتصاد التجربة الديمقراطية؟
فإن اعتُبرت انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول عام 2011، تجربة ديمقراطية قائمة على المرجعيات الأيديولوجية للناخبين بالأساس، حسب وصف جزء مهم من الشارع التونسي، فإنه من المُلاحظ طيلة الفترة الأخيرة أن وعي التونسيين صار أشمل من ذلك بكثير وأن برامج وخطابات كل الأحزاب تقريباً تجاوزت التقسيمات الأيديولوجية الضيقة وانصرفت إلى محاور تفصيلية وأولويات أخرى، يتصدّر قائمتها المحور الاقتصادي.
ولا غرابة في أن يكون الجانب الاقتصادي سبّاقاً بطرح نفسه على طاولة المجلس النيابي المقبل الذي ستفرزه الانتخابات، إلى جانب الملف الأمني، وأن يكون من أكبر رهانات المرحلة المقبلة، إذ تُشير ديباجة قانون المالية التكميلي إلى أن إنجاح المسار الانتقالي في تونس "شديد التأثر بالعوامل الخارجيّة والدّاخليّة والتّحديّات الهيكليّة".
واتسم المشهد الاقتصادي التونسي طوال الثلاث سنوات المنقضية التي تلت ثورة 14 يناير/كانون الثاني 2011 بالاختناق والتذبذب، ومرّ بمطبات وصعوبات ضيقت الخناق على الدولة التونسية وعلى شعبها وغيّرت كل المؤشرات التنموية التي تكشف عن زيادة عجز الميزان التجاري خلال الثمانية أشهر المنقضية إلى 9.4 مليارات دينار (5.2 مليارات دولار) وأن عجز الموازنة العامة وصل إلى نسبة 6.6%، فضلاً عن عجز المؤسسات العمومية الذي قُدّر بـ 3 مليارات دينار.
ولعّل نسبة النمو الاقتصادي هي أشدّ المؤشرات الاقتصادية خطورة في تونس. حيث يشير تقرير البنك الدولي إلى أن نسبة النمو الاقتصادي لتونس المنتظرة لسنة 2015 ستصل إلى 2.7 %.
كل هذه المعطيات مُجتمعة تكشف عن صعوبة مهمّة البرلمان والحكومة المقبلين، وأن العديد من الملفات ستفرض نفسها على قائمة الأولويات ولا سيما الجانب التشريعي.
وتعدّ البطالة على سبيل المثال، ملفاً قديماً متجدّداً اندلعت بسببه شرارة الثورة التونسية بوفاة البوعزيزي احتجاجاً على البطالة والتهميش، وصيغت حوله أبرز شعاراتها "شغل، حرية، كرامة وطنية" وسيكون دون شكّ ضمن أبرز الملفات المعروضة على الحكومة المقبلة. فوفق الإحصاءات الرسمية، بلغ عدد العاطلين من العمل بعد الثورة نحو 800 ألف شخص، بينهم نحو 300 ألف شاب يحملون شهادات عليا.
ولعل العمل على حل إشكالات هذا الملف ليس بالهيّن ويتطلب إصلاحات هيكلية على مستوى سياسات التشغيل والتنمية، إذ يرى الخبير الاقتصادي معز الجودي أن أزمة البطالة تعود بالأساس إلى عدم الانسجام بين المنظومة التعليمية مع متطلبات سوق الشغل. وينتظر الجميع خفض نسبة التضخم التي بلغت 5.6 % في الأشهر الثمانية الماضية، والحد من غلاء المعيشة وتراجع القدرة الشرائية وهي ملفات شائكة.
وحسب الجودي فإنّ الحد من غلاء المعيشة يقتضي "زيادة الإنتاج لتوفير السلع وتنظيم مسالك التوزيع والقضاء على الاحتكار وتكثيف عمليات المراقبة الاقتصادية ومحاربة التهريب والاقتصاد الموازي غير المهيكل (غير الرسمي)".
كل هذه التدابير التي أتى عليها قانون المالية التكميلي الذي اختير له عنواناً "نحو الانتعاش الاقتصادي"، مرتبطة بشكل وثيق في ما بينها وستكون بدورها ضمن أبرز مهام الحكومة المقبلة لتحقيق "الانتعاش" المأمول. فالتهرب الضريبي يمثل مصدر نقص ملحوظ لموارد ميزانية الدولة التونسية وينعكس سلباً على الأداء الاقتصادي وتطور الاستثمار الخاص وتنافسية المؤسسات والعدالة الاجتماعية. التصدّي للتجارة الموازية ملف آخر يطرح نفسه على المسارين المقبلين لتونس والمدعوّين إلى تطبيق "الخطة الوطنية لمقاومة التهريب" التي تم إقرارها في الغرض من قبل سالفيهم والتي سيُطالبون بتكريسها من خلال التوجه نحو "إدماج النشاط الموازي في الاقتصاد المنظم" و"تكثيف المراقبة الميدانية والحدودية" و"دعم الاندماج الاقتصادي المغاربي وتطوير التعاون الإقليمي مع الجزائر وليبيا خاصة".
وستفرض الإصلاحات والتدابير المتعلقة بالقطاعات المصرفية والسياحية والفلاحية، نفسها أيضاً على البرلمان والحكومة اللذين ستفرزهما صناديق الاقتراع التي ستُقفل في مساء اليوم. إذ هما مُطالبان بإعادة الانتعاش للسياحة التونسية التي كانت طوال سنوات المصدر الأساسي لدعم الاقتصاد التونسي، خصوصاً أن تونس ليست بلداً نفطياً ولا تعوّل سوى جزئياً على الزراعة.
كل هذه الملفات المفتوحة أمام أنظار القائمين القادمين على تونس، وكل هذه التشريعات التي تنتظر التفعيل العاجل وكل هذه المسائل العالقة التي تنتظر الأطر التشريعية المنظمة، ستحدّد مصير تونس الاقتصادي الآتي الذي يؤثر تأثيراً مباشراً وملموساً على الوضع الاجتماعي والسياسي، ويحدد بالتالي مصير السلطة التونسية القادمة باعتبار أن "الربيع العربي" مرّ من هناك وأن الشأن الاقتصادي كان الحدث الأهم للثورة التونسية والثورات العربية التي تلتها، وهو الذي وضع نقطة النهاية لحياة المخلوع بن علي السياسية على عرش قرطاج، وما زال التحدي الأكبر أمام الثورة.
-----------------
اضغط هنا للمشاركة بالتصويت في الخارطة التفاعلية للانتخابات التشريعية التونسية