خرج الاقتصاد التركي من تجربة محاولة الانقلاب العسكري الفاشل في منتصف يوليو/تموز 2016، وسط تنبؤات تجمع بين التفاؤل والتشاؤم، إلا أنه لم تمض أسابيع حتى كان الاقتصاد في مواجهة تحدّ جديد، بدخول القوات العسكرية التركية في حرب برية بشكل مباشر في سورية تحت ما يسمى "درع الفرات"، ثم التواجد المكثف للقوات التركية بالموصل في العراق، لاعتبارات تراها الحكومة التركية تتعلق بأمنها القومي.
ولا يتوقف الأمر على مجرد خروج القوات التركية للحرب في سورية والعراق، ولكن الاقتصاد التركي لا يزال يعاني من تحديات الداخل والمتمثلة فيما تقوم به جماعات العنف من المعارضة التركية، بتصفية بعض قيادة حزب العدالة والتنمية، أو العمل على تنفيذ تفجيرات في بعض مناطق إسطنبول.
واللافت للنظر أن تركيا قررت خلال أكتوبر/تشرين الأول الجاري، إنشاء ثاني قاعدة عسكرية لها خارج البلاد في الصومال، وأن بداية عمل هذه القاعدة القيام بتدريب نحو 10 آلاف جندي للجيش الصومالي بالتعاون مع الأمم المتحدة، فيما تعد القاعدة العسكرية الأولى في قطر.
وتعلن تركيا بأن الدافع وراء هذه الخطوة تسويق منتجاتها العسكرية التي تطورت خلال السنوات الماضية. ولا شك أن لهذا الأمر ثمنه الاقتصادي، والذي تمثل بشكل سريع في انخفاض قيمة العملة التركية، ليصل سعرها مقابل الدولار الأميركي إلى 3.05 ليرة للدولار، كما أدت تلك الأحداث المتلاحقة لانخفاض معدلات السياحة منذ يوليو/تموز الماضي.
وتشير البيانات إلى أن السياحة تراجعت بنحو 40% خلال الفترة الماضية. كما أتت تقويمات مؤسسات التصنيف الائتماني لتخفض من رتبة الاقتصاد التركي، حيث يصف تقرير موديز للتصنيف الائتماني الاقتصاد التركي بغير الآمن للاستثمار، بينما تصفه الحكومة التركية بالتقويم المسيس.
وثمة مجموعة من التحديات تفرضها الأجواء السياسية الداخلية والخارجية على أوضاع الاقتصاد، ما يستدعي أن تعمل الحكومة على زيادة الإنفاق لفرض الأمن في الداخل، وتنفيذ طموحاتها من التواجد العسكري في سورية والعراق.
وفي ضوء المنشور عن موازنة عام 2017، تبين أن عجز الموازنة التركية سيكون بحدود 2%، بنفس معدلات عجز 2016. وصرح رئيس الوزراء التركي على يلديرم مؤخرا، بأن حكومته كان تعتزم أن يكون العجز بالموازنة صفر، ولكن الأحداث التي مرت بها تركيا، وبخاصة محاولة الانقلاب العسكري الفاشل أثرت بشكل سلبي على العائدات السياحية والصادرات بشكل واضح.
والتحدي الثاني يتعلق بتهديد مناخ الاستثمار، فرغم معايشة تركيا اعتداءات بشكل شبه مستمر، إلا أنها كانت تمثل أحداثاً فردية، ولكن منذ توتر العلاقات التركية مع المعارضة الكردية، وكذلك شن هجمات تركية على الأكراد في سورية والعراق، زادت حدة الانفجارات داخل تركيا من قبل جماعات العنف، بل ومن قبل عدو جديد وهو تنظيم "داعش".
وبلا شك سوف يؤثر ذلك على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تمثل جانباً مهما في الاقتصاد التركي، حيث بلغت 16.8 مليار دولار مع نهاية 2015.
وهناك تحدّ ثالث يتعلق بتراجع العلاقات التجارية مع العراق، فحسب بيانات معهد الإحصاء التركي، فإن العراق تحتل المرتبة الثالثة في قائمة الدول المستقبلة للصادرات السلعية التركية في عام 2015، حيث بلغت في ذلك العام 8.5 مليارات دولار، بما يمثل 5.9% من إجمالي الصادرات السلعية التركية.
ومن المتوقع أن يؤدي توتر العلاقات السياسية والعسكرية بين تركيا والعراق للتأثير على حجم الصادرات، ويؤدي إلى تراجعها.
وثمة أمر مهم في العلاقات التركية العراقية، وهو واردات تركيا من النفط والغاز العراقي، حيث تمد العراق تركيا بنحو 32% من احتياجاتها من النفط، ونحو 9% من احتياجاتها من الغاز.
وتمثل الواردات التركية من الطاقة عصب الحياة الاقتصادية، وتأثر هذه العلاقة بالسالب سوف يؤثر بلا شك على مقدرات تركيا الاقتصادية.
وظلت الحكومة التركية تتصرف في ضوء مسلمة أن الاقتصاد كان أحد أهم مقومات نجاحها، وكذلك أداتها في استعادة دورها الإقليمي، فعلى الصعيد الداخلي تنطلق الحكومة في تنفيذ مشروعات البنية الأساسية، وتراهن على تحقيق معدلات للنمو الاقتصادي خلال عام 2016 لا تقل عما يتراوح بين 3.5% و4%، وتعلن عن زيادة قيمة الصادرات بنهاية شهر أغسطس/آب 2016 مقارنة بأداء الشهر المماثل من 2015 بنحو 7.8%.
ووفق بيانات البنك المركزي، نجحت السياسة النقدية في الحفاظ على رصيد احتياطيات النقد الأجنبي، على الرغم من تلك الهزة العنيفة التي أحدثتها أجواء محاولة الانقلاب الفاشل.
فحسب بيانات أحدث تقرير للبنك المركزي، فإن احتياطي النقد الأجنبي ظل عند رصيد 120 مليار دولار خلال شهري يونيو/حزيران ويوليو/تموز 2016، وارتفع في أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول إلى 122 مليار دولار.
أي أنه رغم تراجع نشاط السياحة وانخفاض قيمة الليرة التركية، إلا أن الاحتياطي زاد بنحو ملياري دولار على مدار الشهرين الماضيين، ويظهر هنا دور الصادرات في دعم الاقتصاد التركي، حيث وصلت إلى 11.8 مليار دولار في أغسطس/آب بزيادة 7.8% عن نفس الشهر من 2015.
وركزت تركيا على استعادة علاقاتها الاقتصادية مع روسيا، وفي نفس الوقت تزيد من حجم علاقاتها التجارية والاقتصادية مع إيران، كما تستقبل ولي العهد السعودي، وإن كانت الزيارة ذات طابع سياسي لإحداث توافق في وجهات النظر تجاه قرار الكونغرس الأميركي بشأن قانون "جاستا"، إلا أن الزيارة تخللتها اتفاقات تجارية، تزيد التبادل التجاري المقدر بنحو 22 مليار دولار.
التقدير الأولي يشير إلى إمكانية استيعاب الاقتصاد التركي لما ذكرناه من تحديات سياسية داخلياً وخارجياً، ولكن ما يُخشى منه، أن تتم خطة توريط جميع دول المنطقة في حروب مفتوحة، تؤدي إلى استنزاف ثروات الدول النفطية، وتقضي على آمال الدول الصاعدة مثل تركيا.