الاعتراف بالدولة الفلسطينيّة
بعد اعتراف السويد بدولة فلسطين، ها هي الجمعية الوطنية (الغرفة السفلى للبرلمان) الفرنسية، تعترف بها، وتدعو الحكومة الفرنسية لذلك. ولا يختلف اثنان في أن موجة الاعتراف بدولة فلسطين التي تشهدها أوروبا تشكل دعماً للقضية الفلسطينية، بغض النظر عن طبيعته ودرجته. لكن، ماذا ورد، بالتحديد، في قرار البرلمان الفرنسي، وعلى أي أساس (حيثياته)؟ وما هي تداعيات الاعتراف عموماً؟
جاء في قرار البرلمان الفرنسي أنه، رغبة منه في دعم المساعي الدولية للسلام في الشرق الأوسط، وانطلاقاً من رغبة الشعبين، الإسرائيلي والفلسطيني، العيش في السلام والأمن، ومن فشل إعادة إطلاق عملية السلام، ومن التهديدات المحدقة بحل الدولتين، على الرغم من القدرات المؤسساتية التي تدعّمت بها السلطة الفلسطينية، والاعتراف بها في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومن التوتر المتصاعد في القدس والضفة الغربية، والذي يهدد بدوامة عنف جديد، مضر بكل شعوب المنطقة، واعتباراً من أن الوضع القائم غير قابل للاستمرار وخطير، لأنه يغذي الإحباط والريبة بين الطرفين، وتأكيداً على ضرورة استئناف المفاوضات بين الطرفين، وفق رزنامة واضحة ومحددة، وعلى الضرورة الملحة للتوصل إلى تسوية نهائية ودائمة للصراع، بإقامة دولة فلسطينية ديمقراطية، وذات سيادة تعيش في سلام وأمن إلى جانب إسرائيل، على أساس حدود 1967، وتكون القدس عاصمة الدولتين، وعلى أساس اعتراف متبادل، وتأكيداً على أن حل الدولتين الذي تدعو إليه فرنسا والاتحاد الأوروبي يفترض الاعتراف بالدولة الفلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل.
يدعو البرلمان الحكومة الفرنسية إلى الاعتراف بدولة فلسطين، للتوصل إلى حل نهائي للصراع. والملاحظ، هنا، أن قرار البرلمان الفرنسي يستجيب للمطالب الفلسطينية الأساسية، وخصوصاً حدود 1967 والقدس. لكن، نظراً للعلاقة الفرنسية ـ الإسرائيلية، من المستبعد، في الراهن، أن تعترف الحكومة الفرنسية بالدولة الفلسطينية. وسنناقش، هنا، بعض تداعيات الاعتراف عموماً.
للاعتراف جوانب إيجابية وأخرى سلبية. تكمن الأولى في أنه من مقومات الدولة قانونياً وسياسياً في النظام الدولي، وأنه يسمح للفلسطينيين ولوج منابر ومؤسسات دولية من موقف قوي للدفاع عن حقهم في الاستقلال، كما أنه يعني أن إقامة دولة فلسطينية أصبحت مسلّمة بالنسبة لـ"المجموعة الدولية"، ووفق بعض المطالب الفلسطينية الأساسية (حدود 1967 والقدس...). والاعتراف، بحد ذاته، يشكل ضغطاً على إسرائيل، بصرف النظر عن تبعاته السياسية والاقتصادية والعسكرية. كما يُعتبر الاعتراف ضغطاً، ولو رمزياً، على إسرائيل، لأنه يمنح مساحة سياسية وإعلامية شرعية دولياً للفلسطينيين. أما جوانبه السلبية، فتتمثّل في أنه لا يغيّر الوضع القائم الذي هو لصالح إسرائيل، والذي من خلاله (الوضع القائم) تُغيّر إسرائيل معالم الدولة الفلسطينية القادمة ومفاصلها. ومن ثم، هو قد يبدو اعترافاً بأمر قد لا يحدث، أو مستبعد للغاية، بالنظر للوقائع الميدانية، وقد يعبّر الاعتراف عن قناعة سياسية راسخة بأن الحل الوحيد لإنهاء الصراع إقامة دولة فلسطينية. لكن، قد يكون، أيضاً، محاولة لترضية بعض الخواطر السياسية وإراحة الضمير، خصوصاً في دول ومجتمعات تقول بالحرية والديمقراطية.
وتضع مسألة الاعتراف بدولة فلسطين الفلسطينيين أمام امتحان سياسي عسير، على صعيدين. على الصعيد المحلي، يقتضي هذا الاعتراف أن يتكلم الفلسطينيون بصوت واحد، وأن تكون لهم سلطة واحدة في الضفة، كما في غزة. من هذا المنظور، يعدّ الاعتراف مأزقاً للأطراف الفلسطينية المتناحرة من أجل السلطة في ظل الاحتلال. على الصعيد الخارجي، يقتضي الاعتراف، عملياً، التوقف عن المقاومة المسلحة، أو ما تسميه مختلف الأطراف الدولية أعمال العنف. وهي تطالب الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني بوقف أعمال العنف، بيد أن الفلسطينيين هم الطرف الأضعف في المعادلة، والضغوط ستكون أقوى عليهم، بينما إسرائيل لا تتأثر بها. فعلى الرغم من معارضة الدول الغربية للاستيطان، فإنها لم تجبر إسرائيل على إيقافه. ومن ثم، قد يكون الاعتراف بدولة فلسطين تهدئة للجبهة الفلسطينية ـ الإسرائيلية، وليس الإسرائيلية ـ الفلسطينية، وهذا ما تريده القوى الغربية، فيما تتواصل استراتيجية "هضم" الأراضي الفلسطينية وتقويض ما تبقى من مقومات الدولة الفلسطينية المنشودة. بمعنى أن الاعتراف يفترض، عملياً، وقف المقاومة، لكنه لا يفترض وقف الاستيطان. وهنا المشكلة، فهو يغيّر نمط المقاومة الفلسطينية للاحتلال، لكنه لا يغيّر نمط السلوك الإسرائيلي.
بالطبع، سيكون للاعتراف دلالة قوية، لو صدر عن حكومات دول مؤثرة في القرار الدولي، أو، على الأقل، من دول تربطها علاقات وطيدة مع إسرائيل. بيد أن هذا مستبعد في الراهن، لأنه سيضع هذه الدول في موقف في غاية من التناقض، فهي لا يمكنها أن تواصل تمويل إسرائيل وتسليحها ودعمها، وتعترف، في الوقت نفسه، بالدولة الفلسطينية في ظل الاحتلال. ولا نقول شططاً إن اعتبرنا أن تغيير سلوك إسرائيل مرهون، في جزئه الأكبر، بتغيير سلوك القوى الداعمة لها. ومن ثم فمدخل الاعتراف، إنْ تأكد مستقبلاً، سيكون دلالة على بداية التغيّر.