الاستيطان في فلسطين: من التسلل إلى السيطرة

03 يوليو 2016
مستوطنون يقتحمون بيتاً في القدس، تموز2010، تصوير: أحمد غرابلي
+ الخط -

اسرائيل نفسها مشروع استيطاني في الأساس، لكنه يختلف عن الاستيطان الفرنسي في الجزائر، وعن الاستيطان الهولندي والبريطاني في جنوب أفريقيا أو في روديسيا (زيمبابوي)؛ فهو استيطان إجلائي قام على طرد السكان الأصليين، وإحلال مهاجرين في مكانهم. فالاستيطان الفرنسي، على سبيل المثال، كان يريد استغلال الأرض ومَن عليها، بينما الاستيطان اليهودي يهدف إلى استملاك الأرض وطرد مَن عليها.

وحتى منتصف القرن التاسع عشر كانت صلة يهود العالم بفلسطين مجرد صلة دينية وعاطفية بالدرجة الأولى، ولم تتجاوز رغبات بعض الجماعات المتدينة في الإقامة في فلسطين للتعبّد على غرار رغبة كثير من المسلمين في مجاورة الأماكن المقدسة في مكة أو القدس أو في دمشق.

غير أن الاستيطان كمشروع سياسي كان أحد الأدوات العملية التي نشأت في سياق تفاقم "المسألة اليهودية" في شرق أوروبا، وفي غمار التفتيش الاستعماري عن حل لهذه المشكلة التي أرّقت أوروبا شرقاً وغربًا، وفي خضم التنازع اليهودي – الصهيوني على مصير "الشتات اليهودي".

فاليهودية كدين، كما هو معروف، تقوم على تقديس الشتات، فالنبي إبراهيم، بحسب العقيدة اليهودية، اكتشف الله خارج أرض إسرائيل، وأنجب يعقوب الأسباط خارج البلاد، ثمّ إن "الشعب اليهودي" تبلور، في الشتات، أي في مصر، وألواح التوراة نزلت على موسى في الشتات، أي في سيناء، والتلمود كتب في المنفى، وشتات اليهود ناجم عن إرادة إلهية، ونهايته لن تتحقق إلا مع مجيء المسيح (الماشيح).

أما الصهيونية كحركة سياسية، فهي نفي للشتات، وقد عملت على تهجير اليهود من أوطانهم إلى فلسطين وزرعهم في الأرض في محاولة لإيجاد "شعب يهودي" متجانس، وتأمين بوتقة صهر لهم (Melting spot) تجسدت لاحقاً في الجيش والمستوطنات واللغة الجديدة، وفي الدولة في نهاية المطاف.

البدايات
يمكن التأريخ لبداية الاستيطان اليهودي في فلسطين بالعودة إلى سنة 1859؛ ففي ذلك العام اشترى اللورد موزس مونتفيوري مساحة من الأرض خارج أسوار القدس، وبدأ البناء فيها لتكون حياً لليهود. وسُمِّي هذا الحي باسمه. ثم تمكن من بناء سبعة أحياء أخرى حتى سنة 1892.

وفي سنة 1870 أسس الاتحاد الإسرائيلي العالمي (الأليانس) مدرسة "مكفيه يسرائيل" الزراعية بالقرب من بلدة يازور فوق 2600 دونم، بتمويل من البارون إدموند دي روتشيلد والبارون موريس دي هيرش.

وكانت جمعية الهيكل الإنجيلية الألمانية باشرت نشاطها الاستيطاني في سنة 1869 بعد صدور قانون عثماني في سنة 1867 يبيح للأجانب تملّك الأراضي في الدولة العثمانية. وتمكن الهيكليون من بناء مستعمرة في حيفا.

والمعروف أن بداية الاستيطان كانت متعثرة، وفشلت المستوطنات الأولى (تجربة مستعمرة بئير طوفيا ومستعمرة الرمثانية في الجولان)، ولم يصمد المهاجرون في مستعمراتهم لعدم معرفتهم بشؤون الزراعة.

وحتى المدرسة الزراعية "مكفيه يسرائيل" كانت معطلة حين بدأت الموجة التأسيسية الاستيطانية في سنة 1882. وأصيب المستوطنون بالملاريا في بعض المناطق فهجروها، مثل مستعمرة متيولا (المطلة)، المشرفة على سهل الحولة.

والمعروف أيضاً أن الصهيونيين تمكنوا من شراء نحو 22 ألف دونم من الأراضي الفلسطينية حتى نهاية عام 1882 بدعم من البارون روتشيلد وصندوق اللورد مونتفيوري. ومع ذلك، عندما وصل المستوطنون الجدد في سنة 1882 فصاعداً، لم يكن في فلسطين أي مستوطنة يهودية على الإطلاق، بل خرائب وبقايا مستوطنات مهجورة.


المستوطنون الجدد

في1/3/1881، اغتالت مجموعة من الروس، بينها إحدى الفتيات اليهوديات، القيصر ألكسندر الثاني. وفي إثر هذه الحادثة، تعرض اليهود لحملة مدوية من القتل والسلب والتهجير بدأت في 15/4/1881 واستمرت حتى سنة 1882.

وكان لهذه الحوادث شأن كبير في إحياء الفكرة الصهيونية. وفي خضم هذه الأجواء، ظهرت جمعيات يهودية شرعت في التفتيش عن مخارج عملية لهذا الوضع، أشهرها "البيلو" التي راحت تشجع اليهود على الهجرة إلى فلسطين. وتمكنت طلائع هذه الحركة من تأسيس مستعمرة "غديرة" في فلسطين عام 1884.

وسبقتها حركة "أحباء صهيون" التي تمكن روادها في 1/8/1882 من وضع حجر الأساس لمستعمرة "ريشون لتسيون"، أي الأولى لصهيون، على أراضي قرية عيون قارة الفلسطينية القريبة من يافا، وتمكنوا في السنة نفسها من تأسيس مستعمرة "روش بينا" على أرض قرية "الجاعونة" القريبة من صفد، علاوة على مستعمرة "بيتح تكفا" (بوابة الأمل) التي أُقيمت فوق أراضي قرية ملبِّس العربية.

لم يكن الاستيطان، في مرحلته الأولى، مشروعاً اقتصادياً، بل مشروعاً سياسياً غايته المستورة وضع المداميك الأولى لقيام دولة يهودية في ما بعد. فموقع بعض المستوطنات الزراعية لم يكن يؤهلها للزراعة على الإطلاق.

وفي هذا الشأن يروي أهرون أهرونسون ما يلي: "يُزرع الشعير في أرض صخرية، ولا يمكن حصاده بالماكينات. وعمالنا المتحمسون يبدأون بالحصاد وهم ينشدون أغاني قومية على إيقاعات قوقازية. وفي المحصلة يقومون بعمل امرأة عربية واحدة أجرها خمسة بنسات (...). إن القيام بعمل يكلف خمسة وعشرين بنساً، في الوقت الذي يمكن إنجازه بخمسة، هو نثر سنتات الأمة التاعسة والقليلة في الريح" (باروخ كيمرلنغ، الصهيونية والاقتصاد، كمبردج – ماساشوستس، 1983).

وكانت جمعية "بيكا" (الجمعية اليهودية للاستعمار في فلسطين)، تمنح كل مجموعة من اليهود المهاجرين قطعة أرض كبيرة لزراعتها، وكانت المجموعة تتلقى المساعدات من المؤسسات الصهيونية. لكن العمال في هذه الأراضي ظلوا عرباً، وفي هذه الحال تحول اليهود إلى مقاولين، أو إلى مراقبين للعمال العرب، وإلى تصريف المحصول. أما أبناء المهاجرين فهجروا تباعاً تلك المستوطنات إلى المدن، وكادت تلك المستوطنات أن تنهار لولا موجة الهجرة اليهودية الثانية التي بدأت في سنة 1904، والتي رفعت طلائعها شعار "العمل العبري"، أي إحلال العمالة اليهودية في محل العمالة العربية.

وفي هذا السياق، ظهر حزب "بوعالي تسيون" (عمال صهيون)، في سنة 1901 في أوروبا أولاً، ثم أسس فرعاً له في فلسطين في سنة 1906، وكذلك حزب "هبوعيل هتسعير" (العامل الفتى)، في سنة 1906. وتبنى هذان الحزبان الدعوة إلى مقاطعة العمالة العربية.

كان استملاك الأرض وجلب اليهود إلى فلسطين هما الهدفان اللذان لم يكن يتقدمهما أي هدف آخر. وكانت الغاية الأخيرة هي تهيئة السبل أمام اليهود المهاجرين للانخراط في الزراعة والعمل في الأرض، لأن من شأن ذلك أن يبني مجتمعاً يهودياً جديداً وشعباً يهودياً بالمعنى القومي للكلمة.

وشكلت المستعمرات الأولى التي بُنيت بين 1882 و1903 نقطة ارتكاز الاستيطان اليهودي، مع أنها فشلت في تأسيس قاعدة اقتصادية قادرة على استيعاب المهاجرين الجدد، وظلت تعتمد على المساعدات الخارجية، خصوصاً من البارون دي روتشيلد، وعلى اليد العاملة العربية الرخيصة.

وعلى الرغم من فشل مستعمرتي "بيتح تكفا" و"روش بينا" في البدايات الأولى، إلا أن خمس مستوطنات أُسست حتى نهاية عام 1884 هي: "زخرون يعقوف" (ذكرى يعقوب) على أراضي قرية زمارين القريبة من حيفا، و"نس تسيونا" (راية صهيون) في صرفند، و"ييسود هامعلا" (ركن الفضيلة) القريبة من الحولة، و"غديرة" على أراضي قرية قطرة العربية، إلى الجنوب من الرملة، و"عكرون" على أراضي قرية عقرون القريبة من الرملة أيضاً، وجرى، في الوقت نفسه، تجديد الاستيطان في بيتح تكفا وريشون لتسيون.

ومع عقد المؤتمر الصهيوني الأول في سنة 1897 كان عدد المستوطنات في فلسطين قد بلغ 17 مستوطنة تمتلك 140 ألف دونم. أما المستوطنات الجديدة فهي: بئير طوفيا على أراضي قرية قسطينة (1887)، و"رحوفوت" على أراضي قرية ديران (1890)، و"حديرا" على أراضي قرية الخضيرة (1890)، و"عين زيتيم" على أراضي قرية عين الزيتون (1891، لكنها خلت من المستوطنين قبيل حلول عام 1900)، و"غان شموئيل (1896)، و"مئير شافيه" (1889)، و"بات شلومو" (1889)، و"مشمار هايردن" (1890)، و"محنايم" (1896) و"متيولا" (1896)، علاوة على مستعمرة "موتسا" القريبة من القدس (1894) ومستعمرتي "بني يهودا" و"هرطوف".

في المؤتمر الصهيوني الخامس (1901)، أُقر تأسيس الصندوق القومي اليهودي وسُجّل كشركة في بريطانيا سنة 1907، وكذلك في كولون بألمانيا في 8/4/1907، وأُضيف هذا الصندوق إلى "صندوق الاستيطان اليهودي" الذي أقره المؤتمر الصهيوني الثاني (1898).

وساهم هذان الصندوقان، فضلاً عن "بيكا" و"شركة تطوير أراضي فلسطين"، في استيعاب موجات الهجرة الثانية التي تفاقمت منذ سنة 1904 فصاعداً، ولا سيما بعد هزيمة روسيا في الحرب مع اليابان في سنة 1905 التي اندلعت جراء تلك الهزيمة ثورة 1905 المشهورة.

وفي سياق هذا التطور الجديد، ظهرت مستوطنات جديدة مثل كفار طافور (طابور) وإيلانا (الشجرة) ومنحميه ويبنئيل ومتسفيه وكنيرت القريبة من طبرية. وهذه المستعمرات أُنشئت حين كانت فلسطين ما زالت تحت الإدارة العثمانية. وبين 1908 و1913، أي عشية الحرب العالمية الأولى، بُنيت مستعمرات أخرى، مثل دغانيا، في غور الأردن الشمالي، ومرحافيا، في مرج ابن عامر على أراضي قرية الفولة العربية، وبن شيمن وحولدا، في وسط فلسطين.


من التسلل إلى السيطرة

جاءت الحرب العالمية الأولى لتشل الهجرة اليهودية إلى فلسطين وتعيق عملية الاستيطان، وانخفض عدد اليهود في فلسطين من 85 ألفاً في سنة 1914 إلى 55 ألفاً في سنة 1918.

ومع ذلك ازداد عدد المستعمرات، ولو قليلاً، نتيجة لبناء مستوطنات جديدة في الجليل الأعلى، مثل تل حاي وكفار غلعادي. وفي تلك الفترة شهدت فلسطين طرازاً خاصاً من المستوطنات الزراعية هو "الكيبوتس" الذي يقوم على العمل التعاوني الاشتراكي حيث لا ملكية خاصة للأرض أو للمعدات أو للمنازل أو للمنشآت.

وقد بلغ عدد الكيبوتسات حتى عام 1914 نحو 12 كيبوتساً، منها عين حارود وتل يوسف وبيت ألفا وحفتيسيباه وغيفح وغنيغار ومزراع، وجميعها في السهل الساحلي الفلسطيني، علاوة على كريات عنافيم في القدس. كذلك أسست حركة الاستيطان ما يسمى "الموشاف"، وهو عبارة عن قرية زراعية تملكها مجموعة من المستوطنين وتديرها، خلافاً للكيبوتس، على قاعدة الملكية الخاصة وتوزيع حصص الأرباح. ومن بين الموشافيم الأوائل نهلال وكفار يحزقئيل وتل عداشيم وبن يمينا.

مع وقوع فلسطين تحت قبضة الاستعمار البريطاني في سنة 1917، وهي السنة التي أُذيع فيها "إعلان بلفور" (2/11/1917) الذي ينص على السعي لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، راح وضع "الييشوف" اليهودي يتعزز باطراد مع قدوم موجات الهجرة اليهودية من أوروبا تحت حماية الانتداب البريطاني. وفي تلك الفترة أُسست "الهاغاناه" (1920)، وكذلك "الهستدروت"، أي الاتحاد العام للعمال اليهود في أرض إسرائيل (1/12/1920) والصندوق التأسيسي لإسرائيل (كيرن هايسود)، والجامعة العبرية في القدس (1925) التي حضر حفل افتتاحها طه حسين وراغب النشاشيبي، رئيس بلدية القدس، وآرثر بلفور.

وفي فترة الانتداب الأولى ظهرت مستعمرات بلفوريا وعطروت وهدار هاكرمل، ثم امتياز تجفيف بحيرة الحولة (1934)، الذي آل إلى الحركة الصهيونية من آل سلام اللبنانيين الذين امتلكوا مع محمد بيهم وميشال سرسق رخصة هذا المشروع من الدولة العثمانية، وبدأ بناء مدينة تل أبيب في سنة 1910 التي كانت مجرد ضاحية لمدينة يافا.

وفي هذا الطور صار المشروع الصهيوني مكشوفاً تماماً، وغاياته وأدواته ما عادت مخفية. وتفاقمت عمليات بيوع الأرض، وانتقال الأراضي الأميرية إلى المؤسسات الصهيونية الاستيطانية برعاية تامة من سلطات الانتداب البريطاني، فضلاً عن عمليات البيوع الكبيرة، مثل وادي الحوارث في 27/5/1929 الذي كانت عائلة تيان اللبنانية تملك معظمه، خصوصاً أنطون وميشال تيان، ووادي القباني (1929) الذي امتلكته عائلة القباني البيروتية وباعته عبر شفيق زنتوت من الصندوق الوطني اليهودي، وكذلك مرج ابن عامر الذي باعه ميشال سرسق وعائلته.

والمشهور أن بين 1936 و1939، أي في معمعان الثورة الفلسطينية الكبرى، "ابتدع" الصهيونيون طريقة "السور والبرج" (حوماه ومغدال) في بناء مستوطناتهم التي كانت عبارة عن مستوطنة صغيرة محاطة بسور وفيها برج للمراقبة الأمنية. وفي عام 1936 نفسه أُنشئت ما لا يقل عن عشرة مستوطنات من هذا النوع، الأمر الذي كان يشير إلى أن الاستيطان الصهيوني بدأ يتحول إلى مشروع سياسي وأمني معاً عماده القوة العسكرية.

باختصار يمكننا القول إن موجة الهجرة اليهودية الأولى (1882-1903) حملت معها إلى فلسطين نحو 30 ألف مهاجر، وحملت موجة الهجرة الثانية (1904-1914) نحو 40 ألف مهاجر، وفيها ظهر شكل جديد من الاستيطان هو الكيبوتس والموشاف.

أما موجة الهجرة الثالثة (1919-1923) فقد كانت استمراراً للموجتين السابقتين، لكن بعد توقف دام أربع سنوات هي سنوات الحرب العالمية الأولى. وكان عدد السكان اليهود في فلسطين نحو 23 ألفاً في سنة 1882، وارتفع إلى 85 ألفاً عام 1914، ثم هبط إلى 55 ألفاً في سنة 1918.

وفي سياق موجة الهجرة الرابعة (1924-1932)، أصدرت عصبة الأمم صك الانتداب على فلسطين في سنة 1922، وفُتحت أبواب فلسطين أمام الهجرة اليهودية. ودامت موجة الهجرة الخامسة من 1932 حتى 1938، أي إلى عشية الحرب العالمية الثانية بعد صدور الكتاب الأبيض في عام 1938 الذي حاولت بريطانيا من خلاله تطمين الفلسطينيين وامتصاص انتفاضتهم التي دامت ثلاث سنوات (1936-1939).

أما موجة الهجرة السادسة (1939-1948)، فرفعت عدد اليهود في عام 1948 إلى نحو 650 ألفاً بعدما كانوا قبل ثلث قرن نحو 55 ألفاً فقط. وهؤلاء تمكنوا من تأسيس دولة إسرائيل في 14/5/1948، وصار ما قبل ذلك التاريخ تاريخاً وما بعده تاريخاً آخر.


ما بعد النكبة

حتى 14/5/1948 كانت في فلسطين نحو 285 مستعمرة انتشرت، في معظمها، على امتداد حدود التقسيم، من المطلة في الشمال عند الحدود اللبنانية إلى عين جدي في الجنوب عند أطراف البحر الميت. وبعض هذه المستعمرات دُعيت "الناحل"، أي التي يقطن فيها ما يسمى "الرواد الشبان المقاتلون"، مثل مستعمرة "يوطفتا" التي بُنيت في عام 1950 مقابل وادي عربة، و"غونين" على الحدود السورية (1951)، و"ناحل عوز" (1951)، مقابل قطاع غزة.

وحتى نهاية سنة 1958 كانت إسرائيل صادرت نحو مليون دونم من الأراضي الفلسطينية، وهي إما أملاك خاصة، أو أملاك مشاع للقرى، أو أملاك اللاجئين. وفي سنة 1957، على سبيل المثال، صادرت السلطات الإسرائيلية مساحات من أراضي الرينة وعين ماهل وإكسال لإنشاء مستعمرة "نتسيرت عليت" (الناصرة العليا)، لاستيعاب المهاجرين اليهود الجدد الذين تقاطروا إلى إسرائيل بعد حرب السويس في سنة 1956.

وكان الهدف، في البداية، يقضي بزيادة أعداد اليهود في الناصرة العليا حتى تتفوق على عدد العرب في مدينة الناصرة، ثم يجري توحيد المدينتين، فيتولى رئاسة البلدية أحد اليهود. ثم عمدت السلطات الإسرائيلية، في سياق خطة بعيدة المدى، إلى تأسيس مدن استيطانية، مثل "معالوت" التي أُقيمت في سنة 1958 على أراضي ترشيحا ومعليا وسحماتا والبقيعة، و"كرمئيل" (1961)، على أراضي دير الأسد والبعنة ونحف.

وكان المقصود هو التغلغل في قلب المناطق العربية، وقطع الاتصال الجغرافي للقرى الفلسطينية، والحؤول دون توسع تلك القرى بطريقة حرة. ولهذه الغاية راحت مؤسسات الاستيطان تشق الطرق بين القرى العربية لوصل المستعمرات بعضها ببعض، ولخدمة أغراض الحراسة والدفاع معاً.


الاستعمار الاستيطاني غربي نهر الأردن

ما إن سقطت الضفة الغربية بأيدي الجيش الاسرائيلي في حزيران/ يونيو 1967، حتى شرعت السلطات الإسرائيلية على الفور في إقامة أحياء جديدة في القدس، ومستعمرات في الضفة الغربية، علاوة على قطاع غزة والجولان في ما بعد.

ففي القدس هدم الجيش الإسرائيلي حي المغاربة لتوسعة الساحة أمام الحائط الغربي الذي يدعونه "حائط المبكى". وبذريعة إعادة إعمار الحي اليهودي في القدس الشرقية استولت إسرائيل على عقارات كثيرة، وأجرت تعديلات فيه وأسكنت يهوداً في تلك العقارات، علماً أن مالكي عقارات الحي اليهودي فلسطينيون في الأساس، وقد غادر سكان هذا الحي إلى القدس الغربية في سنة 1948.

أما في سنة 1967، وبذريعة إعادة هؤلاء اليهود إلى مساكنهم الأصلية، فقد نزعت السلطات الإسرائيلية عملياً ملكية الفلسطينيين لعقارات هذا الحي. وكان أول حي يهودي يُبنى في القدس بعد احتلالها هو حي أشكول في الطرف الشمالي الغربي للقدس، ثم الحي السكني لطلبة الجامعة العبرية.

وظهرت بالتدريج مجموعة من البؤر الاستيطانية في القدس الشرقية وحولها مثل "بيت أوروت" التي تطل على مسجد قبة الصخرة، و"معاليه زيتيم" التي تطل على المسجد الأقصى. وجرى ربط "معاليه أدوميم" بالقدس الغربية (أقيمت معاليه أدوميم على أراضي قرية الخان الأحمر وانتهى بناؤها في سنة 1975، ووصل عدد سكانها اليوم إلى 40 ألف نسمة، وهي تطل على القدس من الشرق).

وكانت مستعمرة "نفي حورون" من أولى المستعمرات التي بُنيت مبكراً حول القدس (1969)، فوق أراضي قرى عمواس ويالو وبيت نوبا التي هدمتها إسرائيل في سنة 1967، ثم تبعتها "عطروت" (1970)، القريبة من مطار قلنديا، علاوة على غيلو وتالبيوت مزراحي ونفي يعقوب ورامات أشكول وراموت (بُنيت على أراضي قرية النبي صموئيل)، وهار حوما (جبل أبو غنيم).

أوضح أريئيل شارون حقيقة التفكير الإسرائيلي في شأن تهويد القدس أو الاستيطان اليهودي في القدس بقوله: "وضعنا لأنفسنا هدفاً وهو ألا نترك حياً واحداً في القدس الشرقية بلا يهود. وهذا هو الشأن الوحيد الذي يمكنه أن يضمن القدس مدينة موحدة تحت السيادة الاسرائيلية" (جيفري أرونسون، مستقبل المستعمرات الإسرائيلية في الضفة والقطاع، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1996).

وفي هذا الميدان جرى تنظيم شبكة مواصلات تخترق أحياء القدس (الشرقية والغربية معاً) بحيث يمكن إخفاء القدس القديمة نوعاً ما، وإظهار القدس كلها على أنها ذات طابع يهودي، وهذا هو التهويد في حد ذاته الذي يعتبر إحدى النتائج المباشرة للاستيطان.


السياسة والأمن

المستعمرات الإسرائيلية هي، في الجانب الوصفي، منشآت ذات طابع مدني، لكنها تابعة لقوة محتلة ذات طابع عسكري. وكانت إحدى مهمات الجيش الإسرائيلي، بعد احتلاله الضفة الغربية في حزيران/ يونيو 1967، حماية الاستيطان وتوسيع رقعته.

وليس من المستغرب، في هذه الحال، أن تكون معسكرات الجيش الأردني في الضفة الغربية المراكز الأولى للاستيطان. وهذه المراكز توسعت بالتدريج لتصبح مستوطنات قائمة بذاتها.

وكان الأمن أحد الأهداف المعلنة للاستيطان، مع أن يتسحاق رابين رفض مراراً فكرة الدور الأمني للمستعمرات، وكان يردد أن فائدتها الأمنية محدودة جداً، إذ إن مستعمرة "إيلون موريه"، على سبيل المثال، لا تحرس مدينة العفولة، بل إن القوات الإسرائيلية هي التي تحرسها.

ومن المعروف أن الأمن والاستيطان والسيطرة أمور مترابطة في التفكير الإسرائيلي، والأمن الذي توفره المستعمرات هو شأن وجودي لدى صانعي القرارات، أكثر مما هو ضرورة أمنية، لأن من دون المستعمرات تصبح القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية جيشاً أجنبياً يحكم شعباً فوق أرضه.

وقد برهنت الانتفاضة الفلسطينية الأولى مجدداً أن الجيش الإسرائيلي هو جيش احتلال حقيقي، وأن صورته لدى الرأي العام الغربي هي صورة مزوّرة. وقد وضعت إسرائيل سياسة عامة للاستيطان تقضي بأن تكون المستعمرات حزاماً يطوِّق المناطق الفلسطينية، خصوصاً المناطق الموجودة عند المنحدرات الغربية لجبال القدس – الخليل، وفي الأغوار، وحول القدس. وقد بدأت المستعمرات في الأغوار كنقاط مراقبة على امتداد الجانب الغربي لنهر الأردن، وأول نقطة كانت "محولا" التي تحولت إلى مستعمرة في شباط/ فبراير 1968.

وتناثرت المستعمرات إما على التلال أو عند تقاطعات الطرق بحيث تتيح للجيش الإسرائيلي تفوقاً على المناطق الفلسطينية المجاورة، أو الوصول السهل إلى مصادر المياه. وإلى ذلك، كانت المستعمرات تُبنى في مناطق متقاربة، الأمر الذي يجعلها، بعد توسعها، أشبه بمدينة واحدة ذات أحياء منفصلة.

وعلى هذا المنوال، نشأت الكتل الاستيطانية حول الخليل وبيت لحم ورام الله وأريحا. وفي السياق ذاته، استولت إسرائيل على 60% من أراضي غور الأردن بطول 115 كلم، وعرض يراوح بين 20 و25 كلم، أي من بيسان شمالاً حتى البحر الميت في الجنوب، وهي من أخصب بقاع فلسطين على الإطلاق.

وكانت أولى مستعمرات الغور، كما ذكرنا، "محولا" (1968)، ثم تبعتها مستعمرتا "كاليه" و"أرغمان" في السنة نفسها، لتظهر بعدها مسوءة (1969)، ومتسبيه شاليم (1970)، وحمرة (عطاروت سابقاً)، في عام 1971، ومعاليه أفرايم وبقعوت (1972).

ويمكن إيجاز مراحل الاستيطان الإسرائيلي، في ما عدا قطاع غزة والجولان، على النحو التالي: المرحلة الأولى (1967-1977) إبان حكم حزب العمل الإسرائيلي، حيث بدأ الاستيطان أولاً في القدس، فجُرف حي المغاربة وطُرد سكانه، وأعيد بناء الحي اليهودي في البلدة القديمة.

المرحلة الثانية (1977-1990)، إبان حكم حزب الليكود، وفي هذه المرحلة صارت المستعمرات مدناً كبيرة، ووصل عددها إلى نحو 150 مستعمرة، وعدد سكانها إلى 90 ألف مستوطن. ولم يحل اتفاق كامب دايفيد عام 1978 بعد زيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى القدس في سنة 1977، ولا اتفاقية السلام المصرية – الإسرائيلية سنة 1979، دون اتساع الاستيطان وانتشاره في جميع أنحاء الضفة الغربية ومدينة القدس.

المرحلة الثالثة (1990-2000)، التي شهدت تدفق اليهود الروس على إسرائيل، ولم يتمكن مؤتمر مدريد في سنة 1991، ولا المفاوضات التي أعقبته، ولا حتى اتفاق أوسلو الموّقع في 13/9/1993، دون استشراء الاستيطان، فوصل عدد المستوطنين في الضفة الغربية إلى 200 ألف مستوطن، وعدد المستوطنين في القدس إلى 172 ألفاً.

أما المرحلة الرابعة (2000-)، فقد شهدت بناء الجدار العازل بذريعة حماية المستعمرات. وفي هذه الفترة انسحبت إسرائيل من قطاع غزة سنة 2005، ودمرت 21 مستعمرة وأجلت منها 8500 مستوطن، لكن عدد المستوطنين في الضفة الغربية بلغ في نهاية سنة 2015 نحو 400 ألف مستوطن، وفي القدس نحو 240 ألفاً، واحتلت المستوطنات 42% من مساحة الضفة الغربية التي خرّقتها الكتل الاستيطانية الكبرى، مثل كريات أربع في الخليل، التي بدأ البناء فيها في سنة 1968، ومثل غوش عتسيون، جنوبي بيت لحم، التي بدأ البناء فيها في 27 أيلول/ سبتمبر 1967.


الاستيطان والمستقبل

أسس الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية آلية للتحكّم بحياة الفلسطينيين من خلال مجموعة من الإجراءات اليومية كإغلاق الطرق وإقامة الحواجز وتصاريح التنقل، أو من خلال سياسات بعيدة المدى تهدف إلى التحكم بمصادر المياه وبالنمو المدني عبر إعاقة استيراد مواد البناء لتشييد المنازل والمدارس والمستشفيات والمؤسسات الخدمية المختلفة.

وهكذا ظهرت في الضفة الغربية منظومة تمييز جلية؛ فالمستوطنون يتمتعون بحقوق المواطنة الإسرائيلية كاملة، بينما يخضع السكان الفلسطينيون للقوانين العسكرية التي تحرمهم حتى حقوقهم الأساسية، مثل العمل والتنقل الحر والسكن والشرب.

والواضح أن الاستيطان يهدف، في نهاية المطاف، إلى منع الفلسطينيين من السعي إلى تقرير مصيرهم في المنطقة المتبقية من فلسطين والواقعة غربي نهر الأردن. ومع أن الاستيطان، بمعنى ما، رسم حدود إسرائيل تقريباً، إلا أنه جعل حل الدولتين غير ممكن.

وللأسف، فإن اتفاق أوسلو الذي وقعته قيادة منظمة التحرير الفلسطينية انطوى على تصور أن في الإمكان التوصل من خلال بنوده إلى تأسيس دولة فلسطينية مستقلة. لكن هذا الاتفاق استثنى قضايا الاستيطان والمستوطنين من المعالجة خلال الفترة الانتقالية.

أما اتفاق القاهرة (4/5/1994)، واتفاق اوسلو 2- الذي وُقّع في طابا في 28/9/1995، فقد جرى الاتفاق فيهما على عدم بناء أي مستعمرة في المرحلة الانتقالية التي انتهت في أيار/ مايو 1999، وعلى استثناء المستوطنات والمستوطنين من أي ولاية قانونية، حتى في الأمور الجنائية، فلا تستطيع الشرطة الفلسطينية، بموجب ذلك، أن تعتقل أي إسرائيلي أو تحاكمه، بينما الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تستطيع القبض على الفلسطينيين "الذين يُلحقون الأذى بالإسرائيليين" واستجوابهم ومحاكمتهم.

وقد قبلت القيادة الفلسطينية بأن السلطات المنتقلة إليها لن تشمل المستوطنين والمستوطنات والطرق التي يستخدمها هؤلاء، وكذلك المناطق الحدودية مع مصر والأردن، والقدس الشرقية أيضاً، وجرى تأجيل التفاوض على هذه الأمور وغيرها إلى مفاوضات الوضع النهائي التي انتهت، بدورها، إلى الفشل بعد عشرين سنة من التفاوض المضني.

وفي هذه الأثناء فاق عدد المستوطنات في الضفة الغربية 240 مستوطنة (ما عدا القدس)، بينها نحو مئة مستوطنة تزعم السلطات الإسرائيلية أنها "غير شرعية" وتسميها "بؤراً استيطانية"، لكنها لا تفعل أي شيء لإزالتها، وزاد عدد المستوطنين في الضفة والقدس على 640 ألف مستوطن.

وهذا هو بالضبط ما أرادته الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، أي خلق أمر واقع يجعل قيام دولة فلسطينية مستقلة غير ممكن. فَمن يبتدع اليوم خطة فلسطينية مضادة لخلق وقائع معاكسة تجعل إمكان قيام دولة فلسطينية رهاناً واقعياً؟ هذا هو التحدي.

(كاتب فلسطيني/ بيروت)