الاستفتاء على اسكتلندا وصراع الضعفاء

25 سبتمبر 2014
ينتظر الجميع كاميرون عند المفترق (كارل كورت/فرانس برس)
+ الخط -


اجتمع رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، مع رفاقه من صقور حزب "المحافظين" في مجلس العموم البريطاني، الاثنين الماضي، في مقرّه في مقاطعة باكنغهام شاير في بريطانيا، لمناقشة منح البرلمان الاسكتلندي المزيد من السلطات، في إطار تنفيذ التعهدات التي أطلقها مع زعيم حزب "الأحرار" ونائبه في الحكومة، نيك كليغ، وزعيم حزب "العمال" المعارض، إيد ميليباند، لحثّ الاسكتلنديين على التصويت ضدّ استقلال اسكتلندا خلال الاستفتاء التاريخي، يوم الخميس الماضي.

وتشهد فترة ما بعد الاستفتاء حالة غير مسبوقة من الانقسام والتوتر بين قادة أحزاب ويستمنستر الثلاثة، مما أدى إلى تعذّر تمتعهم بنشوة النصر والاحتفال ببقاء المقاطعة في أحضان المملكة الأم. إذ لم تمض ساعات قليلة من الاستمتاع بنشوة النصر، حتى وجد زعماء الأحزاب الثلاثة أنفسهم منقسمين فيما بينهم، وحتى مختلفين مع رفاقهم، كما حصل مع كاميرون وأعضاء في حزب "المحافظين".

بات كاميرون يدرك جيداً أنه إذا تراجع عن تنفيذ تعهداته، فإن ذلك يعني المخاطرة بمستقبله السياسي ومستقبل حزبه، وافساح فرصة ثمينة للاسكتلنديين القوميين لتحقيق حلمهم بالدولة الاسكتلندية، ويعلم ما يترتب على ذلك من تداعيات داخلية، أهمها تحفيز مقاطعتي ويلز وايرلندا الشمالية للمطالبة بالاستقلال، وهو وضع يمكن تشبيهه بلعبة حجر "الدومينو"، بالإضافة الى حصول تداعيات جمّة على المستوى الخارجي.

غير أنّ تعهدات كاميرون بمنح اسكتلندا المزيد من السلطات أثارت حفيظة صقور حزبه، لخشيتهم من سخط ناخبيهم الذين يشكلون الثقل الأكبر في بريطانيا، فهؤلاء الناخبون لا يجدون أنهم مجبرون على دفع المزيد من الضرائب كي يتمتع الاسكتلنديون بخدمات مجانية في قطاع التعليم والصحة وغيرهما من القطاعات.

ورغب كاميرون في إعطاء تطمينات لرفاقه، خلال اجتماع الاثنين الماضي، مفادها بأنه في الوقت الذي سيمنح سلطات واسعة للاسكتلنديين، فإنه في المقابل سيمنع نوابهم في مجلس العموم من التصويت على قوانين تخص الدستور الإنكليزي المرتقب كتابته في الشهور المقبلة.

وبما أن الاسكتلنديين يعلمون أن صياغة دستور لإنكلترا والمصادقة عليه في استفتاء عام قد يستغرق وقتاً طويلاً، مستندين إلى تجربتهم في صياغة دستورهم عام 1989، فهم يشككون بجدية كاميرون في الالتزام بتعهداته.

وكما كان متوقعاً، استغلّ زعيم الحزب "القومي الاسكتلندي" ورئيس حملة "استقلال اسكتلندا"، أليكس سالموند، الشرط الذي وضعه كاميرون خلال بيانه الشهير بعيد إعلان نتائج الاستفتاء، وتعهد خلاله بمنح السلطات الى اسكتلندا، ولكن عبر ربطها برسم ترتيبات دستورية جديدة بالنسبة لبقية بريطانيا، بما في ذلك انكلترا.

وسارع سالموند إلى اتهام كاميرون وزعيمي الحزبين الآخرين بخداع الاسكتلنديين بتعهد كاذب بمنحهم مزيداً من السلطات، قائلاً إنهم "تخلوا عن وعودهم...هو شيء مخز"، ملوحاً بأن "الاستقلال غير بعيد الاحتمال".
ومضى سالموند في تهديداته بقوله إن "حصول اسكتلندا على استقلالها، لا يتطلب إلا استفتاء ثانياً"، ملمحاً إلى أن "هناك طرقاً عدة لتحقيق الاستقلال، وأنها مسألة وقت".

فسّر مراقبون تصريحات سالموند بأنّه ربما يعول على فوز حزبه في الانتخابات العامة المقررة في مايو/أيار المقبل، ما يمكنه من اثارة مسألة الاستقلال مرة أخرى. وعاود سالموند الظهور ليصرح بـ"امكانية اجراء استفتاء ثان، في حال تغير الوضع في البلاد بشكل كبير... مثلاً في حال خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي"، على حد قوله.

يعلم كاميرون ومنافسيه في لندن مدى تأثير تصريحات سالموند الحماسية على القوميين الاسكتلنديين، بدليل خروج تظاهرة في مدينة برث الاسكتلندية، تهتف "الحرية...الحرية"، مطالبة باعادة الاستفتاء على استقلال اسكتلندا من المملكة المتحدة.

وفي محاولة لاخراس سالموند، ولطمأنة الاسكتلنديين، أكد موقع "10 داوننيغ ستريت"، أن "رئيس الوزراء ملتزم بتنفيذ التعهدات التي تم الاتفاق عليها من قبل القادة الثلاث (كاميرون وكليغ وميليباند) حول منح صلاحيات واسعة للبرلمان الاسكتلندي بخصوص الضرائب والامور العامة". وأوضح أن "تنفيذ هذه التعهدات، غير مرتبط بأي شروط".

أما حزب "العمال" المعارض، فيحقّ له أن يقلق على مستقبله السياسي، بعد أن أعلن كاميرون أنه لا يحق لأعضاء مجلس العموم من الاسكتلنديين التصويت على القوانين الانكليزية المرتقبة، لو علمنا أن الحزب لديه 40 عضواً من مجموع 59 عضواً اسكتلندياً في مجلس العموم. حرمان هؤلاء من التصويت على القوانين الانكليزية، يعني أن زعيم الحزب، ميليباند، سيواجه صعوبه كبيرة في الحصول على غالبية في مجلس العموم.

وجاءت حالة التوتر التي يعيشها "العمال" أيضاً بسبب هبوط شعبيته بالتزامن مع صعود شعبية الحزب "القومي الاسكتلندي" بزعامة سالموند، الذي أعلن انه سيستقيل من زعامة الحزب ومن رئاسة وزراء اسكتلندا في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. فقد أظهرت آخر استطلاعات للرأي أجرتها مؤسسة "سرفيشن" حول الانتخابات المقبلة في اسكتلندا، أن عدد مؤيدي الحزب "القومي الاسكتلندي" وصل إلى 49 في المائة من عدد المشاركين في الاستطلاع، فيما حصد "العمال" تأييد 33 في المائة من عدد المشاركين في الاستطلاع.

ولا تزال شخصية ميليباند، لا تجد قبولاً لدى بعض مؤيدي الحزب، إذ يرى نحو 5 في المائة منهم "أنهم لا يتخيلون أن يصبح رئيساً للوزراء"، خصوصاً أنه يواجه منافسة شديدة على زعامة حزبه من قبل بعض رفاقه الذين يملكون ثقلاً كبيراً داخل الحزب، من أبرزهم زعيم "العمال" السابق ورئيس الوزراء السابق، غوردن براون، بعد أن أثبت الأخير جدارة عالية في توليه ادارة حملة "معاً أفضل" المعارضة لانفصال اسكتلندا، بعد اخفاق رئيس الحملة، أليستر دارلنغ، في كسب المزيد من المؤيدين في الأيام الأخيرة من موعد الاستفتاء، بحسب بعض استطلاعات الرأي.

ويرى البعض أن براون سرق الاضواء من ميليباند وسلب منه بعض مؤيديه، وربما الأخير الآن يعض أصابعه ندماً، بسبب تحفيز براون على القيام بتلك المهمة.
ويحاول ميليباند التعويض عن هذه الخسائر، باطلاق تعهدات تخدم أصحاب الدخول المتدنية خلال حملاته الانتخابية التي بدأها مبكراً، وآخر ما قام به لرفع رصيده السياسي، كان تعهّده بزيادة أجور ساعات العمل واجراء اصلاحات كبيرة في قطاعي الصحة والتعليم.

أما حزب "الأحرار"، فقد خسر الكثير من شعبيته منذ تحالفه مع "المحافظين" لتشكيل الحكومة الحالية في 2010، وبعد أن بات زعيمه كليغ، نائباً لرئيس الوزراء في الحكومة الائتلافية الحالية. ويتهم بعض البريطانيين كليغ بأنه تخلى عن تعهداته التي أطلقها خلال حملاته الانتخابية السابقة، وباتوا يصفونه بـ"ذيل كاميرون". ولم يتفاجأ الكثير عندما حصل الحزب على أقل الاصوات في الانتخابات المحلية وانتخابات برلمان الاتحاد الاوروبي في مايو/أيار الماضي.

ويحاول كليغ ورفاقه في الحزب، في محاولة يائسة لكسب تأييد الناخبين، إظهار عدم اكتراثهم بأي مكاسب سياسية، بقدر ما تهمهم العدالة في منح المزيد من السلطات لمقاطعات الاتحاد البريطاني، وبلا استثناء. وشدّد كليغ على وجوب تنفيذ منح السلطات بأسرع وقت ممكن.

وفي خضمّ التوتّر الذي تعيشه أحزاب ويستمنيستر الثلاثة، يبدو أن حزب "الاستقلال" البريطاني بزعامة نايجل فاراج، هو المستفيد الوحيد من هذا الوضع. وهو الحزب الذي أحرجهم جميعاً بفوزه في الانتخابات المحلية وانتخابات برلمان الاتحاد الأوروبي في مايو/أيار الماضي.

وتتوقع الأحزاب الثلاثة فوز حزب فاراج في الانتخابات التكميلية المقررة بعد ثلاثة أسابيع، وذلك لملء المقعد الذي تركه النائب المنسحب من حزب "المحافظين"، دوغلاس كارسويل، للانضمام إلى "الاستقلال". ويتوقع البعض أن يرتكز فاراج في حملاته النارية المعهودة على أهمية الخروج من الاتحاد الأوروبي، الشعار الذي رفعه في حملاته الانتخابية السابقة. وهذا يعني أن الزعيم الشعبوي سوف يزاحم كاميرون على أصوات الناخبين المعارضين لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، لأن كاميرون قد تعهد باجراء استفتاء على الخروج أو البقاء في الاتحاد، في حال فاز في الانتخابات العامة المقرر اجراؤها في غضون خمسة شهور.

المشهد السياسي يؤشر إلى أن بريطانيا ذاهبة إلى حقبة الحكومات الائتلافية، التي من غير المستبعد أن يشكلها أكثر من حزبين، وذلك لصعوبة حصول هذه الأحزاب على غالبية في البرلمان، وهي الحالة التي أنتجت الحكومة الحالية بزعامة كاميرون. ويتمنى زعماء الاحزاب في بريطانيا أن يحصدوا غالبية بسيطة تمكنهم من تشكيل حكومات بمفردهم، ومن بدون الحاجة الى ائتلافات مع أحزاب أخرى، على خلاف الحكومات التي السابقة خلال منتصف القرن الماضي. 

فقد أظهرت نتائج انتخابات عام 1951، أن 96 في المائة من الناخبين البريطانيين كانوا يدعمون أحد الحزبين المتنفذين: "المحافظين" أو "العمال"، فيما شارك في الانتخابات نحو 82 في المائة من مجموع الذين يحق لهم التصويت. لكن ما يحدث في الوقت الحاضر، أن الحملات الانتخابية التنافسية التي تعتمدها الأحزاب ضد بعضها البعض للحصول على مكاسب سياسية، تؤدي إلى تعريتها أمام ناخبيها، وتفضي إلى نفور بعض البريطانيين من المشاركة في العملية السياسية.

فقد أظهرت دراسة أجراها مركز "إبسوس موري" البريطاني للدراسات والبحوث، أن عدد الناخبين البريطانيين الذين يدعمون حزباً معيناً في تناقص مستمر. وأكدت الدراسة أن تأييد البريطانيين لهذه الأحزاب سيتراجع في السنوات العشر المقبلة من نحو 33 في المائة إلى 20 في المائة، خصوصاً أن معظمهم يتنمون إلى فئة عمرية متقدمة في السن.

ويذهب البعض إلى تشبيه الصراع المحموم على السلطة بين الأحزاب في بريطانيا في ظل حالات الانقسام والتشرذم، التي تعيشها هذه الأحزاب بعيد اعلان نتائج الاستفتاء على اسكتلندا، بـ"صراع الضعفاء".