الاستفتاء الكردي وحماقات أخرى

27 سبتمبر 2017
+ الخط -
جاء "اليوم التالي" هذه المرة مبكراً، لم ينتظر نتيجة الاستفتاء الكردي، ربما لأنها معروفة سلفاً، وظهرت طلائعه حادة وقاسية ومرعبة، ومنذرة بما هو أكثر هولاً وشدة، هل هي الحرب؟ ربما! شرعت الجيوش في الحركة. أغلقت الحدود براً وجواً. نوقشت في أروقة الدول الثلاث محاصرة الكيان الكردي. اقتربت حكومات العراق وإيران وتركيا أكثر في ما بينها، لرد كل تحول قد يستثمره البارزاني لصالحه. حذّر بعض حلفائه المحليين من أن الأيام المقبلة قد تكون أكثر سوءاً. بلغت درجة التأهب والخوف لدى المواطن العادي في العراق، وحتى في كردستان نفسها، أمداءً عالية. العالم كله يحبس أنفاسه، ويراقب لحظة بلحظة ما قد يحدث. بدأ المستثمرون الأجانب الذين لديهم حصة كبرى في البنية التحتية لكردستان يحزمون حقائبهم، ويزيدون من الإجراءات الأمنية الموظفة لحماية شركاتهم واستثماراتهم. كل هذا ومسعود البارزاني متمسّك بتطرفه وعناده، وكل المؤشرات تحكم في غير صالح الأكراد، وحتى في غير صالح العراقيين، فقد غرق الجميع في هاويةٍ لا قرار لها، ولا سبيل للخروج منها سوى بتأكيد البديهيات. وهكذا من حماقة إلى حماقة، وليس ثمّة من يجرؤ على تأكيد البديهيات، فبعد حماقة "الاستفتاء"، نصحو على حماقة أخرى، تنقلها إلينا مواقع التواصل، أبطالها ناشطون "سنّة"، يطرحون فكرة دولتهم المنتظرة على قاعدة "مفيش حد أحسن من حد". استعاد هؤلاء الناشطون أفكاراً وردت في مذكرة مرفوعة قبل سنتين إلى مسعود البارزاني من شخصيات سنية، تنصل بعضهم منها لاحقاً، تأتي المذكرة على فكرة إقامة "كيان فيدرالي يجمع بين إقليم كردستان والمحافظات العربية السنية الست". والطريف أن مقدمي المذكرة سيئة الصيت تكرّموا على البارزاني بمنحه حصراً منصب الرئاسة الأولى للكيان الجديد، و"تسليم الراية لرجل أمين محنك مثله"، بحسب تعبيرهم، لقيامه "ببناء الإقليم الكردي وما حققه خلال فترة وجيزة من نجاح على كل الأصعدة، وبكل المعايير أصبح نموذجاً يتطلع لأن تحتذي به الأطراف العراقية الأخرى التي أصابها كثير من الدمار المادي والاجتماعي"!

ولسوف يرتكز الكيان الجديد بحسب دعاته على "دين ومذهب واحد"، وعلى "جوار بين العرب والكرد يمتد من زاخو إلى الموصل، إلى أربيل، إلى كركوك، إلى صلاح الدين، إلى ديالى على أساس المصالح المشتركة"، على أن تكون أربيل العاصمة السياسية، والأنبار أو الموصل العاصمة الاقتصادية، ويقترح أصحاب المشروع تشكيل هيئة موسعةٍ لإعداد دراسة مستفيضة عنه، وتقديمها إلى الأمم المتحدة لتنظيم استفتاء على الاستقلال!

وقد طوي المشروع الذي عرف في حينه أن قوى مشبوهة كانت تقف وراءه، هدفها جس نبض الرأي العام العراقي ودول الجوار بشأن الأفكار الواردة فيه، في حينها ظننا أنها تعبير عن تشنج وغضب من أناس طاولهم ظلم، ولم يجدوا طريقاً غيره قد يؤدي إلى إنصافهم!
لكن الجديد اليوم أن كادراً بعثياً متقدماً أعاد إلى الأذهان حكاية المشروع المذكور، وأبدى ما أسماها "نصيحة" لسياسيي السنة بأن "لديهم الفرصة الطيبة لأن ينتزعوا حقوقاً لهم ولأهلهم.. وإيصال رسالة إلى الحكومة في بغداد بأنكم إذا لم تعطونا حقوقنا، وحقوق أهلنا، وبقينا مهمشين (...) فإننا نؤيد الإخوة الأكراد بأخذ حقوقهم، ونحن سوف ننضم إلى هذا الإقليم (الكردي) ونشكل ثقلاً، إذ يتجاوز عدد العرب السنة عشرة ملايين والأكراد خمسة، وسوف يكون تعداد هذه الدولة خمسة عشر مليوناً، ومساحتها أكثر من ثلثي العراق (...)، ونتفق مع إخوتنا الأكراد ونتقاسم معهم السلطة والمال بشكل منصف ...إلخ"، ولم ينس الناصح الكريم أن يؤكد أن الدولة الجديدة سوف تضم تسع محافظات و"جزءاً من بغداد وجزءاً من البصرة".
صمت البعثيون عن استنكار ما ورد على لسان الكادر المذكور، كما صمتوا قبله عن إعطاء موقف صريح من الاستفتاء، ربما بسبب وجود بعض قيادات الحزب في أربيل، وخشية أن ينالهم ضرر جراء ذلك، واكتفوا بتصريحٍ مقتضب من ناطق بلسان القيادة القومية، يدعو الأكراد إلى الانضمام إلى "المشروع الوطني الذي يؤكد على وحدة العراق". وعلى أية حال، لسنا في وارد محاكمة ممارسة "التقية" في العمل السياسي، إنما نريد التنبيه فقط إلى احتمال أن تصفعنا حماقات أخرى في الأيام المقبلة، تلقي بنا في أتون حرائق جديدة قد لا تبقي ولا تذر.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"