الاستعمار يعود

13 ابريل 2015
+ الخط -

مع انتهاء الحرب الباردة، انتهت أيضاً الصيغة المكشوفة لتحكم الدول الكبرى في حلفائها الإقليميين، فانتقلت السيطرة المباشرة إلى هيمنة غير مباشرة، عبر العملاء من القيادات الحاكمة وصناع الرأي والمثقفين من العملاء في الدول الحليفة. ولم يكن الشرق الأوسط استثناء من هذا النمط، كما هو حال أميركا الجنوبية وأوروبا الشرقية والشرق الأقصى، غير أن تأزم الأوضاع الداخلية والإقليمية في الشرق الأوسط، خصوصاً في السنوات الأخيرة، دفع الدول الكبرى إلى تغيير نمط تأثيرها وأدوات تحركها داخل دول المنطقة وتجاهها. حيث تراجع الاعتماد على النخب التابعة والعميلة، بعد فشلها في مناسبات مختلفة، وانكشافها أمام مجتمعاتها. بالإضافة إلى عجز دول المنطقة عن إدارة صراعاتها وخلافاتها ذاتياً، سواء بحلول وتسويات سياسية، أو بمواجهات عسكرية. يضاف إلى ذلك أن البيئة التي تشكلت فيها عوامل الكراهية للغرب، خصوصاً الولايات المتحدة الأميركية (تلك البيئة التي أفرزت هجمات 11 سبتمبر) لم تتغير كثيراً، لا في معطياتها الداخلية والإقليمية، ولا أيضاً في معطياتها الأميركية الإسرائيلية. وفي المقابل، أفضت الضغوط الغربية المتزايدة على روسيا إلى اضطرارها إلى الالتفات، مجدداً،
نحو المياه الدافئة جنوب وشرق المتوسط. وزادت أهمية تلك العودة مع التقارب الإيراني الغربي، الذي ينذر بأفول التعاون الاستراتيجي (النووي خصوصاً) بين موسكو وطهران.

على هذه الخلفية، يمكن رصد دلائل متعددة على عودة التنافس العالمي على المنطقة، بشكل واضح ومباشر. ذلك التنافس الذي لم يتوقف يوماً، لكنه لم يكن بهذه الحدة وذلك الانكشاف، ربما منذ انتهاء الحرب الباردة قبل ربع قرن. لا بد أن هذا التطور تأثر بالتحولات الداخلية والإقليمية، حيث يمكن جزئياً فهم الحماس الروسي لاستعادة علاقات تعاونية، بل ربما إقامة محاور وتحالفات إقليمية مع دول المنطقة، كنتاج للسياسة الأميركية المترددة والمرتبكة تجاه المنطقة وقضاياها، إذ تشجع القوى الكبرى الأخرى على التقدم لزيادة مساحة وجودها وتأثيرها، غير أن هذا العامل ليس الوحيد، بل ربما ليس المتغير المستقل في معادلة التنافس الخارجي في المنطقة. فالتفسير الأشمل يجب أن يتضمن التفاعلات العالمية، خصوصاً المناورات والتنافسات بين روسيا والولايات المتحدة في ملفات ومناطق أخرى، فالحسابات، على المستوى الكوني، تلعب دوراً حيوياً في رسم السياسات والتحركات الروسية في الشرق الأوسط وتوجيهها.

في هذا الإطار، يأتي رفع مستوى التعاون المصري الروسي في المجالات كافة، بما فيها التعاون العسكري. في مقابل بلورة اتفاق نووي نهائي بين إيران والغرب، واستمرار القصف الجوي ضد "داعش"، بواسطة الائتلاف الدولي، أكثر من ستة أشهر متصلة، من دون نتائج حاسمة، أو أفق واضح لمستقبل تلك المواجهة. هذا بينما بدأ باراك أوباما، مبكراً، مرحلة العجز الرئاسي، المعتاد أن يصيب الرئيس الأميركي في العام الأخير له في البيت الأبيض.

قد لا يستمر هذا الانكفاء الأميركي عن الشرق الأوسط طويلاً، خصوصاً إذا خلف أوباما في البيت الأبيض رئيس جمهوري. والأهم أن تنحي واشنطن، ولو مؤقتاً، لن يتيح المجال أمام روسيا وحدها للتأثير والحركة في المنطقة. فقد بدأت بالفعل إشارات عودة قوى أخرى، لها تاريخ من الاستعمار والهيمنة في المنطقة، حيث تتواتر تصريحات المسؤولين الإيطاليين عن ضرورة التدخل العسكري في ليبيا. بل وأبدت قيادات عسكرية جهوزية الجيش الإيطالي لذلك. كما تصدر من فرنسا إشارات مشابهة، كلما استدعت التطورات في مالي أو نيجيريا. وهكذا، يبدو أن واحدة من أخطر وأقذر نتائج الفشل المتراكم لمعظم نظم الحكم العربية، عودة القوى الاستعمارية السابقة إلى المنطقة مجدداً، بعد أن فشلت تلك النظم، حتى في لعب دور الأداة والوكيل لتلك القوى.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.