الاستراتيجية الأوروبية لمحاربة الهجرة

03 مايو 2015

مهاجرون أفارقة لحظة وصولهم إلى جزيرة لامبيدوزا (14فبراير/2015/Getty)

+ الخط -

كانت الهجرة خلال عقود تعالج في أوروبا على أنها مسألة اجتماعية-اقتصادية، لكن، مع مطلع العقد الأخير من القرن الماضي، بدأت تتحول تدريجياً إلى مسألة أمنية بكل المقاييس. وأصبحت أمننة الهجرة أحد الجوانب الأساسية للعقيدة الأمنية الأوروبية. ويقصد بالأمننة (securitization) العملية الخطابية التي تتحول، من خلالها، مسألة غير أمنية إلى قضية أمنية، يتعين معالجتها بأدوات غير معتادة. وتزامنت هذه الأمننة مع انتشار مفهوم الأمن المجتمعي، واعتبار الهوية أحد مواضيع الأمن التي يجب حمايتها (من الهجرة وغيرها). ومع مرور الوقت، تكاد تختفي تماماً الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية للهجرة، بسبب طغيان البعد الأمني والربط (على مستوى الخطاب ثم الممارسات) بين الهجرة والجريمة والإرهاب... وتقوم الاستراتيجية الأمنية للدول الأوروبية لمحاربة الهجرة على عدة محاور أساسية.

أولها، تكثيف استخدام الأدوات الأمنية لمحاربة الهجرة السرية للحد منها (محاولة اعتراض القوارب وإجبارها على العودة من حيث أتت...). حيث تُستثمر مبالغ مالية معتبرة في أنظمة المراقبة الإلكترونية لحماية الحدود، وفي استحداث مؤسساتٍ، مهمتها مراقبة الحدود وحمايتها، وأهمها وكالة فرنتاكس التي أنشئت في 2004، ومقرها وارسو، وميزانيتها السنوية تقدر حالياً بحوالي 90 مليون يورو. وكذلك في إطلاق عمليات ظرفية لمراقبة وحماية الشواطئ الأوروبية وحمايتها في حالة الطوارئ، منها: تفعيل آلية جديدة تسمى "رابيت" (فرق التدخل السريع على الحدود)، تُستخدم بطلب من دولة عضو، وتم نشرها، أول مرة، في اليونان في 2010؛ عملية "هيرا" (جزر الكناري والساحل الغربي لأفريقيا)، عملية "هرماس" (غرب المتوسط)؛ عملية "تريتون" التي أطلقتها وكالة فرنتاكس عقب توقف العملية الإيطالية "ماري نستروم". فضلاً عن عمليات وطنية بحتة مثل عملية "ماري نستروم" (بحرنا – الاسم اللاتيني الذي أطلقه الرومان على المتوسط) التي أطلقتها إيطاليا في 2012. وقد سمحت هذه العملية بإنقاذ آلاف من المهاجرين السريين من الغرق... وتعي أوروبا التحول في ظاهرة الجريمة المنظمة في منطقة المتوسط، حيث أصبح الاتجار بالبشر (تهريب المهاجرين السريين) أكثر ربحاً وأمناً من تهريب المخدرات. لأن نجاح العملية الأخيرة مرهون بوصول البضاعة إلى أوروبا، أما عملية تهريب المهاجرين، فلا يضمن أصحابها إلا المغادرة (ركوب قوارب الموت)، ولا يهمهم الوصول (أو الغرق في البحر) على الإطلاق. وهنا، تكمن معضلة أوروبا: فإن لم تتدخل، فإن مهاجرين يلقون حتفهم قرب سواحلها، وإن تدخلت، فهي تدعم عملياً شبكات تهريب المهاجرين على الضفة الجنوبية الذين سيرسلون مزيداً من قوارب الموت.

ثانيها، إيجاد ما يمكن أن نسميها مناطق عازلة بين الحدود الجغرافية-المؤسساتية للاتحاد الأوروبي وحدوده الأمنية، برسم هذه الأخيرة، بعيداً عن الأولى، من خلال المناولة الأمنية التي تقوم بها دول جنوب المتوسط لحساب أوروبا (اتحاداً ودولاً أعضاء). والهدف نقل محاربة الهجرة من حدود الاتحاد إلى عمق تراب دول جنوب المتوسط، بل إلى حدودها الجنوبية (الصحراوية-الساحلية) بتحويلها إلى نقاط مراقبة وتفتيش عن بعد (بعيداً عن تراب دول الاتحاد). وتهدف هذه الاستراتيجية إلى تجنب عبور المهاجرين السريين المتوسط، وتفادي ضغط الرأي العام الأوروبي، في حال وصول هؤلاء إلى شواطئ الاتحاد، لأن هناك من يندد بعدم حزم الاتحاد في محاربة الهجرة، وهناك من يندد بعدم تحمله مسؤوليته ومراعاته الجوانب الإنسانية. ومن بين أبرز تعبيرات المناولة الأمنية فتح دول مغاربية مراكز إيواء للمهاجرين الأفارقة على أراضيها بأموالها الخاصة، وأحياناً بتمويل أوروبي.

ثالثها، الضغط على الشركاء المتوسطيين، لا سيما دول المغرب العربي، لإبرام اتفاقات حول ترحيل المهاجرين. وهنا، تريد دول الاتحاد تطبيق قاعدة أوروبية في مجال طلب اللجوء على الهجرة السرية، فهذه القاعدة تقول إن الدولة (العضو في الاتحاد) التي دخل منها طالب اللجوء هي من يتكلف به، ويتولى دراسة ملفه. وتطبيق مثل هذه المبدأ على الهجرة السرية يعني أن دولاً مغاربية تقبل ترحيل المهاجرين السريين الذين وصلوا إلى أوروبا انطلاقاً من أراضيها، بغض النظر عن جنسيتهم. والمشكلة أنه يُطلب من دول قبول مهاجرين من جنسيات أخرى لا تربطها بدولهم الأصلية اتفاقات ترحيل مماثلة، ما يعني أن دول جنوب المتوسط تحل محل أوروبا في تحمل أعباء الهجرة السرية الأفريقية.

رابعها، الضغط على الدول المغاربية لتغيير تشريعاتها الوطنية، لتتماشى والتشريعات الأوروبية في هذا المجال. بمعنى تصدير النموذج الأوروبي لأمننة الهجرة وتجريمها. وبالفعل، عدّلت الدول المغاربية (المغرب في 2003، تونس وليبيا في 2004، الجزائر في 2008 و2009) تشريعاتها نزولاً عند رغبة أوروبا وخدمة لمآرب سياسية محلية أيضاً (الهجرة السرية أصبحت هماً مغاربياً أيضاً، كما أن أمننة الهجرة وتجريمها يتوافقان والمنظومة التسلطية القائمة في هذه الدول)، حيث جرمت الهجرة الوافدة والمغادرة.
خامسها، تفضيل "الاستقرار التسلطي" على الاستقرار الديمقراطي، بمعنى التعامل، بل وحتى حماية أنظمة تسلطية ما دامت تقوم بالمناولة الأمنية لحساب الاتحاد الأوروبي، وتحارب الهجرة على أراضيها، سعياً إلى منع المهاجرين المغاربة، وخصوصاً الأفارقة من عبور المتوسط. وتجد أوروبا نفسها أمام تناقض حقيقي. فهي تقول بالديمقراطية وحقوق الإنسان، لكنها تتعامل مع أنظمة لا تعترف بهذه المبادئ. ومن هنا، تأتي معضلة أوروبا: فهي "ترغب" في تغيير أنظمة (دمقرطتها) هي أصلاً بحاجة إليها لصيانة أمنها (محاربة الهجرة). والنتيجة تفضيل أوروبا، في نهاية المطاف، الأنظمة التسلطية... والواقع أنه، في حال التعارض بين المعايير الأخلاقية والاعتبارات المصلحية، فإن الغلبة، في سلوك القوى الكبرى، مهما كانت انتماءاتها، تكون دائماً للثانية على حساب الأولى.