بعد توقف الحرب على تخوم العاصمة الليبية طرابلس في يونيو/ حزيران الماضي، والتي استمرت أربعة عشر شهراً، وما خلفته من تدمير للبنى التحتية، وتهجير أكثر من مئتي ألف شخص، وإيقاف تصدير النفط منذ مطلع العام الجاري، تدهورت الأوضاع المعيشيّة بشكل كبير، وعلى رأسها الانهيارات المتكررة للشبكة الكهربائيّة وما نتج عنها من إظلام تام، وانقطاع المياه، لأيام متتالية في غرب البلاد، بشكل خاص، وسائر المدن الليبية. عاش الليبيون صيفاً ساخناً بالمعنى الحَرفيّ للكلمة، جملة من الظروف الصعبة، أنتجت غضباً اجتماعيّاً تجاه حكومة "الوفاق"، في غرب البلاد، ونظيرتها "المؤقتة"، في شرق البلاد، ما زال متواصلاً إلى يومنا هذا في مدن متفرقة، على طول الساحل والجنوب.
بدأت الاحتجاجات في طرابلس يوم 23 أغسطس/ آب الماضي، في تظاهرات حاشدة كانت الأولى من نوعها منذ سنوات طويلة. في يومه الأول، اصطدم الحراك برد فعل عنيف من قبل بعض المسلحين بعد تحطيم سيارة تابعة لوزارة الداخلية، وطرد طاقم قناة "ليبيا الأحرار"، ما خلق جدلاً واسعاً حول ماهية الحراك ومن يقف وراءه، لدرجة حامت فيها الشكوك حول المحتجين باعتبارهم خطة بديلة لدخول الجنرال خليفة حفتر إلى العاصمة، بعد فشل الخيار العسكري، وتراجعه (حوالي 500 كلم شرق طرابلس) إلى سرت والجفرة. وبينما وصف وزير الداخلية فتحي باشاغا من أطلق النار على المتظاهرين بـ"المندسين"، استعمل رئيس حكومة "الوفاق" الوطني فائز السراج نفس الوصف على بعض الأطراف بين المحتجّين الذين حاولوا الإضرار بالممتلكات الخاصة والعامة.
في الأيام التالية، بدا الحراك أكثر سلمية، مع تنظيف ميدان الشهداء، ومشاركة نقابة المحامين إلى جوار المحتجّين، غير أن المظاهرات اصطدمت في يومها الرابع بقرار الحكومة بفرض حظر لأربعة أيام كاملة، وتشديد إجراءات الحركة والتنقل بين المدن، نظراً لتفشّي فيروس كورونا بشكل كبير في الأيام الأخيرة (أكثر من خمسة عشر ألف إصابة نشطة وحوالي 300 حالة وفاة). منذ ذلك الحين تسارعت وتيرة الأحداث بشكل كبير، بفضل القرارات التي اتخذتها حكومة الوفاق الوطني، من تكليف وزارة العمل بتدريب وتشغيل أكثر من 120 ألف شاب عاطل عن العمل إلى تفعيل الإدارة المحلية وتوفير مبلغ ملياري دينار للبلديات، مروراً بهروب وكيل وزارة الصحة محمد هيثم المتهم بقضايا فساد وإهدار المال العام إلى خارج البلاد، رغم منعه من السفر في وقت سابق، وأخيراً إيقاف وزير الداخلية والتحقيق معه قبل عودته إلى مزاولة عمله من جديد.
تظاهرة إلكترونيّة
بعد فرض الحظر، زاد النشاط عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إذ تحتوي مجموعة "حراك 23/8" على أكثر من 270 ألف عضو، تدور فيها النقاشات والحوارات بين مؤيد ومعارض. وفي الأيام الأخيرة، برز وسم #حمل_Zoom بغية التحشيد لتظاهرة إلكترونية عبر تطبيق "زوم"، على غرار الاحتجاجات الإلكترونيّة في الولايات المتحدة بعد مقتل جورج فلويد، وبلدان أخرى استعملت نفس التطبيق إبّان تفشّي فيروس كورونا.
تشير بعض الصفحات الموالية للحراك إلى أن "منع الشباب من النزول على الأرض" هو السبب في التوجه نحو المظاهرة الرقمية التي تهدف إلى جمع أكثر من عشرة آلاف مواطن عبر تطبيق "زوم". لكن رغم الحماس للفكرة، وتكفل بعض الناشطين عبر مواقع التواصل الاجتماعي بشرح آلية عمل التطبيق وكيفية المشاركة إلكترونيّاً، إلّا أنها لاقت الكثير من الانتقادات في نفس الوقت.
"في العادة تخاف الحكومات الديكتاتوريّة من فيسبوك، لكونه أكثر وسائل التواصل الاجتماعي قدرةً على تحريك الشارع، لكن في حالة تطبيق "زوم" الوضع مختلف تماماً، فهو أساساً مجرد وسيلة للاجتماعات عبر الإنترنت، مع هذا، سيحصل التظاهر على نوع من الدعم الإعلامي العالمي، وعلى بعض الأخبار هنا وهناك، لا أكثر ولا أقل من ذلك"، يقول رئيس المؤسسة الليبية للصحافة الاستقصائية جلال عثمان في حديثه إلى "العربي الجديد". ويضيف: "إذا كانت هناك خدمة إنترنت وكهرباء تتيح لعشرة آلاف مشارك التواصل إلكترونيّاً فإن الحاجة أساساً للتظاهر قد أنتفت، لأن سوء الخدمات الأساسية هي الدفق الرئيسي لهذه الاحتجاجات على الأرض".
وثيقة أغسطس
في الأثناء، برزت "وثيقة أغسطس" بعشرة "مطالب عادلة"، وفق نصّ البيان، تركزت حول إطلاق سراح كل المختطفين والمعتقلين المشاركين في المظاهرات الأخيرة في ظرف أسبوع؛ إقالة محافظ مصرف ليبيا المركزي الحالي وتعيين بديل عنه من قبل مجلس النواب؛ إخلاء القيادة العامة (بقيادة خليفة حفتر) للحقول والموانئ النفطية من القوات الأجنبية وتسليمها للمؤسسة الوطنية للنفط خلال أربعة أسابيع؛ إقالة وكيل وزارة الصحة وإحالته للنائب العام في ظرف أسبوع؛ تكليف مدير تنفيذي أجنبي ذي كفاءة لإدارة الشركة العامة للكهرباء في ظرف أسبوعين؛ وضع خطة للاستفتاء على مشروع الدستور خلال أربعة شهور؛ عدم تدوير "الوجوه السياسية الفاشلة" داخل مجالس رئاسية جديدة؛ إصدار قوائم عقوبات دولية تطاول "قادة التهريب والإجرام وبارونات الفساد"؛ وإلغاء كل الاتفاقيات العسكرية التي تعزز الوجود الأجنبي خلال شهرين؛ وأخيراً إجراء انتخابات عامة قبل مارس/ آذار المقبل.
الوثيقة تبنتها العديد من المنظمات الحقوقية والنسائية، وبعض المؤسسات الإعلامية، باعتبارها "ليست ملكاً لمجموعة أو شخص يحاول التسويق لنفسه من خلالها، (بل) هي ملك لكل من يعتقد بأن تنفيذ ما جاء فيها سيجعل بلادنا في وضع أفضل"، وفق صفحتها على فيسبوك. مع هذا لاقت الوثيقة الكثير من الانتقادات. بشكل خاص، من ناحية المُهَل الزمنية القصيرة، وعدم توضيح حالة مجلس النواب المنقسم بين طرابلس وطبرق، وطلبها بتولي شخصية أجنبية تولي إدارة منصب حساس.
"الوثيقة هي بلورة عملية لمطالب الناس، وكونها تتضمن عشر نقاط فمن الطبيعي أنها تلقى بعض الانتقادات، فحتى المتظاهرون في الشوارع والميادين من الصعب أن يتطابقوا في المطالب، وهذا كان واضحا للعيان؛ هناك شعارات وشعارات مضادة في المضمون أو الشكل خرجت على لسان ولافتات المتظاهرين المتواجدين في نفس المكان"، يقول الناشط المدني إسلام الدرهوبي. ويضيف "ربما التوافق يحصل دائماً في تشخيص المسائل الخدمية والسياسية، المشاكل التي تعد دائما وقوداً للتظاهر والنضال، أما الحلول وخرائط الطريق فهي في أحيان كثيرة تشهد خلافاً على بعض التفاصيل، وبالإشارة إلى كل ما ذكر، نرى بأن وثيقة أغسطس حصدت توافقاً غير مسبوق في كل نقاطها".
ويضيف الدرهوبي في حديثه إلى "العربي الجديد": "يعيب البعض على الوثيقة إعطاءها مددا للأجسام التنفيذية والتشريعية والاستشارية والقيادات العسكرية للخروج من المشهد، ويرون بدل إعطاء مهلة يجب المطالبة بخروجهم فوراً، وهذا مطلب طبيعي، لكن عملياً الأمر يختلف، وثيقة أغسطس اقترحت حلولا للمشاكل، لذلك هي معنية باقتراح حلول عملية؛ كيف يمكن لهذه الاجسام أن تخرج فوراً، وما مصير المسار الديمقراطي لو لم توضع حلول قانونية وسياسية واضحة؟ هناك عملية سياسية ديمقراطية يجب أن تتم، وهي الانتخابات البرلمانية والرئاسية على قاعدة دستورية، وهذا يحتاج لفترة زمنية ولو قصيرة، نحن نضغط في اتجاه استكمال هذه الاستحقاقات بأسرع وقت ممكن".