ستيفن باولوس... غناء يُعبّد الطريق إلى المنزل

14 أكتوبر 2024
إسهامه المرتبط بالجوقة الغنائية المنفردة سيبقى عميق الأثر (موقع الموسيقي)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- الأكاپيلا نشأت في العصور الوسطى كجزء من الطقوس الكنسية، تتكون من أربعة أصوات مختلفة، وتهدف لتعزيز الأثر الروحي للترتيل الديني دون آلات موسيقية.
- تطورت الأكاپيلا في العصور الحديثة لتصبح نمطًا موسيقيًا غير ديني، مع تأثيرات من التراث المسيحي. ستيفن باولوس أضفى طابعًا أمريكيًا على الأكاپيلا، ومن أشهر أعماله "الطريق إلى المنزل".
- "الطريق إلى المنزل" يتميز بالسلالم الخماسية والإيقاع الثلاثي، مما يعكس الهوية الصوتية الأمريكية المتأثرة بالموروث الأوروبي والأفريقي، ويخلق تجربة استماع صوفية.

يعود تاريخ تشكيل الأكاپيلا الغنائي الموسيقي (A Cappella) إلى العصور الوسطى، وإن أمكن التكهّن بماضٍ أكثر قدماً، مرتبط بالدراما الإغريقية. لذا، فمنشؤه طقسيٌّ كنسي، واسمه يعني باللغة الإيطالية "على طريقة المصلّى" ، أو "المعبد الصغير". 
يتألف في أصغر توزيع من أربعة مغنين ومغنيات، مختلفة طبقاتهم الصوتية، هما الطبقتان النسائيتيان، المرتفعة (السوبرانو) والمنخفضة (الآلتو)، والرجاليّتان المرتفعة (التينور) والمنخفضة (الباص).
إبان المسيحية المبكرة، زمن الكنيسة البيزنطية والرومانية الكاثوليكية، لم يكن مسموحاً بعد باستخدام الآلات الموسيقية في إحياء الصلوات والمراسم الدينية، فبحث الكهنة عن شكل أداء غنائي جماعي، يزيد من الشحنة العاطفية للترتيل الديني، من خلال الموسيقى، ومن ثم يعمّق أثره الروحي في الناس، مع استمرار الحفاظ على "طهارة" الأصوات البشرية من ماديّة الآلة. 
ظلّ كلّ من النقاء والصفاء سمتين أساسيتين تلازمان موسيقى الأكاپيلا. في العصور الحديثة، تحوّل التشكيل إلى نمط موسيقي غنائي لا ترافقه آلات موسيقية، لم يعد مرتبطاً بالضرورة بالمراسم الدينية. وإن بقيت أغلب مقطوعاته متأثرة بالتراث الديني المسيحي، خصوصاً من ناحية المواضيع المتناولة من خلال النصوص. 
ولعلّ المؤلف الأميركي المعاصر ستيفن باولوس Stephen Paulus (1949 - 2014) الذي يُصادف 19 من الشهر الحالي مرور عشرة أعوام على رحيله، من أنشط مؤلفي حقبته الذين اشتغلوا على تشكيل الأكاپيلا.
على الرغم من أنه ألف كثيراً من الأعمال لمختلف التشكيلات، منها مسرحيات غنائية عدّة، مثل أوبرا "ساعي البريد يدق جرسه دوماً مرتين" التي حظيت بانتشار واسع، أدت به إلى نيل جائزة غرامي، إلا أن إسهامه المرتبط بالجوقة الغنائية المنفردة سيبقى عميق الأثر، خصوصاً ضمن كانون الموسيقى الأميركية الحديثة. 
استطاع ستيفن باولوس بإزاء الأكاپيلا المتجذرة صوتياً وموضوعاتيّاً في الثقافة الأوروبية المسيحية، سواء بتقاليدها الشرقية الأورثوذكسية أو الغربية الكاثوليكية، أن يدمغها بطابعٍ محليٍّ أميركي، من دون أن يُفقدها صدى تاريخها المحفوظ في أشكال خطوطها اللحنية المقامية الأقدم عهداً، الخاصة بأساليب الكتابة الموسيقية القروسطية، أو في ثنايا انسجاماتها الهارمونية الأكثر حداثة، التي تبلورت لاحقاً بين القرنين السادس عشر والعشرين. 
من أشهر أعمال ستيفن باولوس للتشكيل الجوقي المنفرد، وأكثرها إبرازاً لطابع الهوية الثقافية الأميركية، ذاك المعنون "الطريق إلى المنزل" (The Road Home). كتبه باولوس إثر تكليف جاءه من جوقة "ديل وارلاند" ربيع 2001 بأن يؤلّف مقطوعة تستوحي لحناً شعبياً. 
خلال مسار البحث والعصف الذهني، وقعت عيناه وأذناه على أغنية قديمة بعنوان "الطير البري الشارد"، فأحب لحنها وطلب من صديق شاعر أن يستبدل كلماتها بنص جديد يحكي عن الضياع والبحث عن طريق العودة، لكي يعيد توزيع اللحن، ليناسب جوقة أكاپيلا.

أشد ما يسحر الأذن في "الطريق إلى المنزل" هو اعتماد اللحن على أبعاد خُماسية بين النغمات، أو ما يدعى تقنيّاً پنتاتونيك (Pentatonic)، إذ إن المقامات والسلالم الخماسية من أقدم طرق التلحين التي عرفتها البشرية، وقد ظهرت أشكالها الأولى في أحقاب ما قبل التاريخ بأقطابها الحضارية الثلاث، الصين واليونان وشعوب النيل الأزرق. 
إلا أن ثمة أيضاً خصوصيةً تجمع الپنتاتونيك مع الموسيقى الشعبية الأميركية؛ تلاقح الموروث اللامادي الذي جاء به المستوطنون الأوروبيين الأوائل مع أهازيج الأفارقة اللذين أوتي بهم عبيداً، قد أنتج هوية صوتية أميركية، شكّلت الأبعاد الخماسية طابعاً صوتياً خاصاً بها. انتقلت في ما بعد إلى الترتيل الكنسي الأفروأميركي، أو الغوسبل، ودخلت في صلب موسيقى البلوز والجاز، في فترة ما بين القرنين التاسع عشر والعشرين. 
في مطلع الأغنية، يستعرض ستيفن باولوس نغمات السلم الخماسية على شكل مقدمة مقاميّة، وذلك بتلحينه لفظة "أوه" (O) وفق خطٍّ منحنٍ ينتهي بالقرار. فور بدء المقطع الأول، يُسمع الطابع الخاص للموسيقى الشعبية الأميركية، حين تغني الجوقة : "قل لي أين الطريق الذي أستطيع أن أسمّيه طريقي". 
لا يقتصر الطابع الأميركي على مقامية للحن، وإنما يسري أيضاً من خلال إيقاع الجمل الموسيقية التي تتشكّل وفقها المفردات، لجهة طول مقاطعها وقصرها. ففيما يُضغط الزمن عند كل من "قل لي" (Tell, me) وأداة التعريف (Is the) ، ينفرج ويمتد عند مفردة "أين" (Where) و"الطريق" (The road). 
بذلك، وعلى طول القصيدة، سيتكرّر الإيقاع المتناوب ما بين مقطع صوتي طويل الأمد، يعقبه مقطع قصير، مُشكّلاً بحراً ثلاثياً (Iambic trimeter) شائعاً في الشعر الإنكليزي. 
امتثالاً لبحر القصيدة، صُمّم اللحن على إيقاع ثلاثي، ما أضفى على الترنيمة طابعاً راقصاً، يُذكّر برقصة الفالس، التي أتت أميركا قادمةً مع المهاجرين الألمان والنمسويين. هكذا، تتناهى بصمة الصوت الأميركية إلى الأذن عبر تلاقي اللحن المَصُوغ على مقام الپنتاتونيك، مع النظم الإيقاعي المُنشأ وفق مقياس ثلاثي الضربات. 
إلا أن الإيقاع لا يتناهى ظاهراً للأسماع، وإنما يبقى مستتراً في ثنايا الأصوات الغنائية المتداخلة، معتمداً في وقعه على التقابل بين المفردة والنغمة في الطول والقصر وفي الشد والمد. ذلك أنه لا يصدر عن آلة إيقاعية ترافق الجوقة، وإنما يُشعر به من خلال التقاط النبرة الصوتية، في معرض تجربة الاستماع إلى القصيدة مُلحّنةً ومغنّاة. 

تُسمع السِّمة الأميركية عبر معالجة حداثية لتعدد الأصوات الغنائية، لا تعتمد منطق الطِّباق والتناغم فقط وإنما النشاز والتنافر في بعض الأحيان. 
ولئن كان غناء الأكاپيلا ينتمي إلى فضاء المعبد، حيث يتردد الصوت فيه مُرطّباً بالصدى، فستنحلّ الانسجامات القائمة على التنافر في الفضاء السمعي الرحب، وتتردّد في البرزخ الفاصل ما بين الصوت والصمت، منتجةً أثراً مماثلاً للبُعيدات الصوتية، أو أرباع التون، ما يجعل الاستماع إلى الجوق المنفرد تجربة شعورية خاصة ذات بعد صوفي.

المساهمون