الاجتماعي والوطني في العمل النقابي بتونس

29 ابريل 2018
+ الخط -
منذ تأسيسه، في أربعينيات القرن الماضي على يد الزعيم الشهيد، فرحات حشاد، خاض الاتحاد التونسي العام للشغل صراعات مريرة عل الصعيدين، الوطني والاجتماعي. قارع الاستعمار وساند الحركة الوطنية من جهة، وقاوم الرأسمالية الاستعمارية، ودافع عن حقوق العمال التونسيين من جهة ثانية. السياق وقيم الزعيم حشاد وتجاربه وقناعاته وحدها جعلته ينحو هذا المنحى. دفع الرجل حياته ثمن ذلك، واستشهد قبيل الاستقلال على يد العصابات الاستعمارية التي بعثت لتصفية رموز النضال الوطني. شكل ذلك عقيدة راسخة لمن تداولوا بعده على قيادة الاتحاد، وتم تطوير ذلك وتكييفه حتى في مرحلة الاستقلال، بحسب عوامل ومتغيرات عديدة، من أهمها انفتاح الأنظمة السياسية، سياسات الحكومات المتبعة، وتوجهات القيادات النقابية ذاتها، ولكن تم تدريجيا بعد الاستقلال تحديدا محاولة إعادة الاتحاد إلى حقله ومهمته الأساسية، وهي العمل النقابي، أي الدفاع عن مصالح الشغالين، وتحسين ظروفهم، ولو بأشكال متخفية من الاحتواء، ولم يكن ذلك دوما سهلا فلم يستسغ الاتحاد تحجيم دوره. وظل، من حين إلى آخر، "يحشر نفسه فيما لا يعنيه" من الشأن السياسي، ولم تُخفِ قياداتٌ، وربما ما زالت، رغبتها في لعب دور سياسي ما، بشكل مباشر أو غير مباشر. وتتحدّث مثلا عدة مصادر عن طموح سياسي راود الزعيم الراحل الحبيب عاشور، بدعم من سيدة القصر الأولى، زوجة الرئيس الراحل بورقيبة آنذاك في ظل شيخوخته، وكان ذلك ربما أحد أسباب سجنه فيما بعد.
مع الرئيس المخلوع، زين العابدين بن علي، وتحت الاستبداد، انكفأ دور الاتحاد إلى حد كبير، 
وانشغل بمسائل نقابية اجتماعية بحتة، ولم تصدر عنه إلا نادرا مواقف من القضايا السياسية أو الحقوقية التي عرفتها البلاد: الملاحقات التي طاولت الإسلاميين واليساريين على حد سواء، التضييق على الحريات، إضرابات الجوع، ملاحقة الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان .. إلخ. وقد أعاد بن علي رسم قواعد اللعبة، حتى عاد الاتحاد شبه محايد، بالمعنى السلبي تجاه ما كان يجري بين القوى المعارضة والسلطة آنذاك، تاركا، من حين إلى آخر، لساحة محمد علي حرية تنظيم تجمعات محدودة نادرة. دفع ذلك إلى تبرّم قواعد نقابية عديدة، على اعتبار أن المركزية النقابية افتقدت الشجاعة اللازمة في لعب الدور الوطني المطلوب. علما أن هذا المصطلح يعني ضمنيا في الثقافة النقابية جملة الأدوار السياسية، تحديدا التي يلعبها الاتحاد. حتى جاءت الثورة، فدفعت تلك القواعد، وبشكل ملتو ومعقد، منظمتهم إلى استعادة دورها المهم، خصوصا في مستوى القيادات الجهوية والوسطى التي أطّرت المظاهرات في المدن وعبأتها، بل وقادتها أحيانا.
يعتقد الاتحاد أنه ساهم بذلك في الثورة، في غياب القوى السياسية المهيكلة والزعامات الميدانية. ويستشهد بالمظاهرة "المليونية" الحاشدة التي نظمها في مدينة صفاقس، وكانت منعرجا في تاريخ الثورة. ويقدّم سردية ملحمية على مساهمة قياداته وقواعده في جهات عديدة.
على هذا النحو، سرعان ما تخلص الاتحاد من قواعد اللعب التي فرضها عليه بن علي، وأعاد مجددا، وبشكل تدريجي، رسم قواعد لعب جديدة أزاحت ذلك السياج الشفاف الذي كان يفصل بين المهام الاجتماعية والمهام الوطنية، مستندا إلى إرث تاريخي طويل من ترابط الاجتماعي بالوطني (السياسي)، ومستفيدا من مساهمته في الثورة. سعى الاتحاد، حينئذٍ، إلى توسيع تدخله في المسائل السياسية، خصوصا وقد عرفت الدولة ضعفا ملحوظا بعد سقوط النظام، ما دفعه إلى تعويضها في أحيان كثيرة، بل استعانت به مختلف الحكومات المتعاقبة، لإطفاء حرائق اجتماعية في أكثر من منطقة، لتهدئة الاحتجاجات التي خاضتها مختلف الفئات الاجتماعية، فضلا عن التوسط في حلحلة ملفات سياسية عديدة. لم يستجب الاتحاد إلى رغباته التوسعية فحسب، بل استجاب أيضا، في أحيان كثيرة، إلى طلب اجتماعي متزايد على أن يلعب مزيدا من الأدوار السياسية تلك، حتى أصبح لاعبا سياسيا محترفا. وقد مدته منزلته الحاسمة في الحوار الوطني الذي أنهى حكومة الترويكا (سنتي 2012/ 20014)، ما أهله للحصول عل جائزة نوبل للسلام، بكفاءاتٍ سياسيةٍ تفوق أحيانا كفاءة السياسيين ذاتهم الذين قدموا، في أحيان كثيرة، إلى السياسة، من دون تجارب سابقة.
وترسّخ هذا الأمر مرة أخرى على إثر سقوط حكومة الحبيب الصيد، حين دعي إلى أن يكون 
طرفا في وثيقة قرطاج، والتي شكلت حكومة الوحدة الوطنية الحالية. ساهم الاتحاد في صياغة الأولويات السياسية تحديدا للحكومة، وكان فيها وزراء من قدامى قياداته. لم يطالب برفع الأجور وتحسين الأوضاع المهنية للعمال، بل طالب بإقالة القوانين والوزراء. وقد استجابت له الحكومة في أكثر من مناسبة، وأحيانا بشكل مهين لهؤلاء، ولهيبة الدولة نفسها، وأصبح له حق النقض (الفيتو)، فيرفعه في وجه من يشاء من أسماء وتوجهات، ولعل آخرها ما يسميها الاتحاد خطوطا حمراء، على غرار خصخصة بعض الشركات الوطنية الخاسرة، والتمديد في سن التقاعد من أجل إنقاذ الصناديق الاجتماعية، فضلا عن ملفات أخرى عديدة. ويخوض من أجل تحقيق ذلك إضرابات حطمت أرقاما قياسية.
يبدو أن القيادة الحالية للاتحاد التونسي العام للشغل هي الأكثر انخراطا في الشأن السياسي، فقد تحولت من الداعم القوي وشبه الوحيد لرئيس الحكومة، يوسف الشاهد، إلى المطالب الوحيد، وبشراسة، لرحيله، وبسرعة أيضا. لن يتوقف الأمر عند رحيل رئيس الحكومة في الأشهر القليلة المقبلة، بل سيفتح ذلك شهية الاتحاد لمزيد من التوسع "لضم أراضٍ أخرى" من الشأن السياسي، مستغلا ضعف الدولة وهشاشة الحكومات المتعاقبة وطموح قيادات شابة عديدة، ذات التوجه اليساري تنتشي، حين تسمع هتافات القواعد النقابية في ساحة محمد علي تردد "الاتحاد أقوى قوة في البلاد"، فالاتحاد يحكم أكثر من الحكومة نفسها، من دون مخاطر صناديق الاقتراع أو المساءلة.
الأزمة الحالية في تونس بين الحكومة والاتحاد العام للشغل على خلفية إضراب رجال التعليم هي في الأصل معارك حدود في جلها، تبحث عن إعادة رسم الحدود وإعادة صياغة قواعد اللعبة. سيكون ذلك مضنيا ومحفوفا بالمخاطر، ولكن تأجيل ذلك سيؤدي إلى مزيدٍ من الاحتقان، ما سيضعف الدولة، وقد يؤدي إلى نشأة حالات استبداد وفوضى لا تقل ضراوةً وبؤسا عن استبداد السلطة ذاتها.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.