الإمبراطور أوباما "مناهضًا الإمبرياليّة"
يشعر يساريون غربيون كثيرون، هذه الأيّام، بأنه أصبح لديهم رافعة تاريخيّة تتمثّل، اليوم، في الإمبراطور الأميركي، باراك أوباما، نفسه لا غير، لتحقيق طروحاتهم التي تتمثّل في حصر "كلّ الشرّ" في "الشرق الأوسط" في حرب الكيان الصهيوني المستمرة على الفلسطينيين، فيقومون بتعويم الاستعمار الإيراني، ويغطون على جرائمه. فبحسب هذه المجموعة الكبيرة من النشطاء المتمركزين في الولايات المتحدة وبريطانيا بخاصة، التي يتألّف أعضاؤها من بعض الزواحف الآدميّة الأشدّ ارتزاقًا لإيران، والأكثر تهليلًا لبراميل المحبة الأسدية، من قبيل رموز حركة تحالف "أوقفوا الحرب" (على العراق عام 2003) أمثال جورج غالاوي، الذي بلغت به الهستيريا، قبل فترة وجيزة، إعلانه أنّ إسرائيل ستشارك في "عاصفة الحزم"(!)، وصولًا إلى أغبياء الأسد المُفيدين الذين يرون في نظامه، وفي عملاء إيران الاستعمارية، بعد أن سقط على أيديها مئات ألوف الشهداء والقتلى في كلّ مكان، "خط دفاعٍ أماميًا" ضد الإمبريالية الممثلة (حصرًا) بالكيان الصهيوني. بالنسبة لهؤلاء، أمثال رامزي كلارك وسينثيا ماك كيني (الاثنان حجّا إلى دمشق في سبتمبر/أيلول 2013، ليظهرا وفاءهما للنظام الصامد في وجه هجمات الإمبريالية، المتمثّلة حينها في أطفال الغوطة) وباتريك كوكبيرن (لا يتوقّف وموقع "كاونتِربَنْتش" عن نشر الدعاية لإيران والاسد) وفرانكلين لامب وغيرهم، فإنّ الاستعمار الإيراني الذي يدمّر العالم العربي، ويحاول أن يفتت شعوبه، بدءاً من اليمن والعراق، مرورًا بالبحرين وسورية ولبنان، إلى مللٍ وطوائف، بفضل المساعي الحثيثة للإمبريالية الأميركيّة، لا يعدو كونه مناسبة للاسترزاق، عبر نشرهم غوغائية وخِسَّة تقول إن ما يجري ليس سوى "قتال ضدّ إسرائيل" في القصير وحلب والرمادي وعدن وعرسال وربما المنامة غدًا. ثم يختلط عند هؤلاء شعار "ضد إسرائيل" بأقصى درجات الذُهان الإمبريالي البوشيّ، من قبيل شعارات "الحرب على الإرهاب" و"على التكفيريين"، ليُعادل به بشكل تبادلي، وليصبح، أخيراً، نداء الحرب "ضد السعودية" هو الأحدث في مطحنة الكذب الاستعمارية هذه. ذلك كله لأن دولًا عربية، مثل المملكة السعودية ودول الخليج، باتت، بغضّ النظر عن الطبيعة السابقة لعلاقتها مع الولايات المتحدة، قرّرت أن تواجه، بشكل مباشر، الخطة الأميركية - الإيرانية المشتركة، لتدميرها، بعد تسليم اليمن إلى عملاء إيران المتمثّلين، الآن، هناك في أتباع علي عبدالله صالح والحوثيين.
تشومسكي ضد "الدول السنية"
لكن، في الطرف الآخر من السلسلة، يقبع واحد من أكثر رموز اليسار الغربي قِدَمَا وثباتًا وأبعدهم عن احتمال الارتزاق، ونعني به مؤسس علم اللسانيّات الحديثة، نعوم تشومسكي. في حين نقرّ بأنّها مفيدة كتابات كثيرة للرجل حول النظام الإمبراطوري الأميركي، بدءا من حرب فيتنام، مرورًا بالحملة ضد ممارسات الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين في الغرب، هو بالمناسبة يعارض "حقّ العودة" للاجئين الفلسطينيين، لأنّه يعتقد أنّ الأمر "غير واقعي"، وصولاً إلى غزو العراق عام 2003، إلا إننا نجد، في موقفه المهلّل لتدمير إيران عالمنا العربي، مفارقة لاذعة، لنهاية "نضالية" قد لا يحسده كثيرون عليها. فقد أجرى تشومسكي مقابلة مع صحيفة "إِلْ مانِفستو" الإيطاليّة، في الثالث من إبريل/نيسان الفائت، اعتبر فيها، وفي إجابة مذهلة موشّحة بالـ"سُنّيفوبيا" (كراهية السنةّ)، أنّ "القضية الأساسية في أنّ الدول السنّية (!) حليفة أساسيّة للولايات المتحدة الأميركية. أصدقاء الولايات المتحدة الأميركية هم الأصوليّون والمتطرّفون الذين يريدون الهيمنة على المنطقة. إيران بلاد عظيمة (!)، وهي مثل الصين، متوقع أن يكون لها تأثيرًا في المنطقة، لكنّ السعوديّة لا تريد معارضًا لها بأي ش
كل. وحتى لو امتلكت إيران القنبلة النووية، ليس هناك من يفكّر بأنّ إيران يمكن لها استخدام الأسلحة النووية، لأن هذه البلاد ستتبخّر في اللحظة نفسها وآيات الله لا يريدون بالتأكيد الانتحار".
واضح أن تشومسكي لم ير في كلّ ما يحصل من جرائم ترتكبها إيران وعملاؤها، من لبنان حتى العراق، إلا" تأثيرًا في المنطقة...لبلاد عظيمة"! وفي مقطع ثانٍ يقول إنّه "في اليمن، من الصحيح القول إن إيران تدعم الحوثيين، كما تفعل السعودية، مع من لها هناك (!) على الرغم من أن ما يحصل هو، في النهاية، صراع داخليّ (!). في العراق، تدعم إيران الحكومة المنتخبة. شكل المستشارون الإيرانيون الطبقة الحاكمة العراقيّة، وهم من يقوم بأكثر المعارك الدائرة حاليا في البلاد. طلبت الحكومة العراقية المساعدة من إيران، وشكرت الأخيرة على ذلك. لكن، أن تحتج الولايات المتحدة الأميركية على الـتأثير الإيراني فذلك أمر مضحك". هو محقّ، بالطبع، بالنسبة للجملة الأخيرة، لكن المضحك أكثر أن هذا المستشار الروحي لناشطين غربيين كثيرين لا يبدو أنّه يعرف شيئا مثلًا حول عدم استطاعة الإيرانيين، ومليشياتهم المدعومة والمسلّحة أميركيا، القضاء على من يقاومهم في تكريت، إلا بعد صراخ وعويل واستدعاء الطائرات الأميركية الإمبريالية بشكل مستمرّ، التي باتت تسهّل لهم الطريق، في كلّ مرة يعجزون فيها عن قتل عددٍ كاف من الرضع والأطفال والنساء العرب.
المضحك أكثر فأكثر أنّ صاحب كتاب "السيطرة الإعلاميّة: الإنجازات المذهلة للبروباغندا"، يبدو أنّه لا يعلم شيئا في أنّ السلطة الشرعية في اليمن هي من تواجه حاليًا انقلابا عليها من المليشيات الحوثية، المتحالفة مع رجال علي عبد الله صالح، الديكتاتور الذي نهب 60 مليار دولار، في مقابل جميع القوى السياسية الباقية في اليمن، وخصوصًا في الجنوب، كالوحدويين الناصريين وحزب الإصلاح والحزب الاشتراكي اليمني وتحالف قبائل وعشائر حضرموت، الذين رحّبوا كلهم "بعاصفة حزم" التي تضمّ عشرة دول عربيّة فقط.
كان يفترض بشخص في خبرة تشومسكي، مثلاً، أن يتنبّه إلى حقيقة أنّ قائد المنطقة الوسطى الأميركية، الجنرال أوْستِن، صرّح، في جلسة استماع، أنّه لم يعرف بالعملية إلا في محادثة مع رئيس هيئة الأركان السعودي، قبل ساعة من بدئها، وقال "تلك البلدان التي تقودها السعوديّة لم تعلمنا مسبقًا، ولا أرادت التنسيق معنا، ولا طلبت مساعدتنا في محاولتها هذه، لأّنّها تعتقد بأننا منحازون إلى إيران." (مقالة "الجنرالات الأميركيون: التدخل السعودي في اليمن فكرة سيئة‘" موقع "الجزيرة-أميركا"-17 إبريل/نيسان 2015).
أميركا و"عاصفة الحزم"
اضطرّت الولايات المتحدة أن تعلن مساندتها علنًا "عاصفة الحزم"، بعد أن فوجئت بها أمراً واقعاً بعد حصولها، إذ "قال مسؤولون أميركيون إن علينا أن نقول إننا ندعم عاصفة الحزم لأننا لم نستطع إيقافها" (نيويورك تايمز، 2 إبريل/نيسان 2015)، خصوصًا أنّ قرارًا بشأن اليمن ضد انقلاب الحوثيين وقوات صالح كانت قد صوّتت عليه الولايات المتحدة في مجلس الأمن تحت الفصل السابع يوم 14 مارس/آذار 2015. لكن، على الرغمّ من ذلك كله لم يتردّد أوباما لحظة في الدفع أكثر بتحالفه مع إيران، على حساب "صداقة" يُفترض أنها "تقليد" مع دول الخليج والسعوديّة. فالإمبريالية الأميركية، اليوم، باتت ترى في الاستعمار الإيراني لتدمير العالم العربي، بطوله وعرضه، خادمها الجديد بعد الكيان الصهيوني. وقد عقّب راي تايخ من "مجلس العلاقات الخارجية" على ذلك، في مقالة "السياسة الخارجية الجديدة للسعوديّة"، تناولت العلاقات بين الولايات المتحدة الأميركيّة والمملكة العربيّة السعوديّة، حزم فيها بأنّه "نظرًا لمدى الخلافات بين الجانبين، حول مسائل مركزيّة، مثل كيفيّة التدخّل في الحرب الأهلية السورية والمفاوضات النووية مع إيران، فإنّ السعوديّة لم تعد من صميم الحلف الأميركي. إنّ تبعات ذلك على منطقة تتعرّض لتحوّلات عنيفة هي لا أقلّ من هائلة. (17 إبريل/نيسان 2015).
عملت الولايات المتحدة، منذ أول لحظة، على دعم إيران والحوثيين وصالح، فكان الضغط على باكستان، من أجل عدم الانضمام إلى "عاصفة الحزم". والمعلوم أن علاقة باكستان بالسعودية كانت دومًا متينة جدًا على كل الصعد، وخصوصا العسكرية منها. والسعودية كانت المنفى الذي توجه إليه نوّاز شريف، بعد الانقلاب عليه عام 1999، لكن الأخير أطاع أوباما، عندما أحال قرار الدخول في "عاصفة حزم" إلى مجلس النواب الباكستاني الذي تسيطر عليه أغلبية تحبّذ إيران والذي صوّت ضد الدخول في "الصراع اليمني"، على الرغمّ من أن صلاحيات شريف الرئاسيّة كانت تسمح له بالقبول في المشاركة في "عاصفة حزم"، من دون مشاورة البرلمان. حدثت الحكاية نفسها تقريبًا مع الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، إذ بعد يوم من بدء "عاصفة الحزم"، أعلن الأخير استعداده إرسال قوات برّية إلى اليمن (نيويورك تايمز، 27 مارس/آذار 2015)، لكنه يبدو أنه غيّر رأيه، ولم يعد يريد أن يرسل قوات بريّة (أهرام أونلاين الإنكليزية، 14 إبريل/نيسان 2015)، خصوصًا بعد زيارة لأميركا ومقابلته أوباما الذي أوقف قراره السابق في 24 إبريل 2013 تجميد تسليم مصر أسلحةً، سبق أن دفعت الأخيرة ثمنها، منها 12 طائرة إف-16 و125 دبابة "أبرامز". (رويترز، 31 مارس 2015).
داعش وأوباما والسعودية
العجيب حقًا أنّ تشومسكي، الممتلئة كتبه بحجج مأخوذة مباشرةً من "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست"، لتبرهن على نفاق الصحافة الأميركية، فيما يخص المشاريع الإمبراطوريّة، لا يعلم كيف أنّ السعوديّة وغيرها من الدول الخليجية التي يسميها "دولًا سنيّة (!) حليفة للولايات المتحدة" (الآن؟) تهاجمها الصحف الأميركيّة يوميًا بخصوص اليمن، بكذب معهود تغطي فيه على جرائم الحوثيين الذين قَتلوا الشهر الفائت أكثر من ألف يمني (افتتاحية "نيويورك تايمز" يوم 24 إبريل/نيسان 2015)، وتسمي الحوثيين وصالح "المسؤولين اليمنيين"(!). في أثناء ذلك، قامت إيران "العظيمة"، والتي نوقش تقرير سري، أخيراً، في مجلس الأمن، فيه إثباتات بأنها كانت تدعم الحوثيين منذ 2009 (وكالة الأنباء الفرنسيّة، 30 إبريل/نيسان 2015)، بالخطوة الرهيبة المعادية للإمبريالية الأميركيّة، عندما أجاز مجلس نوابها للشركات الأميركية النفطية الشيطانية الاستثمار هناك في 21 إبريل/نيسان الفائت، كردّ مناسب على الاعتداء الإمبريالي المستمر لأوباما الذي تمثل في إعلان إدارته من على صفحات "وول ستريت جورنال" (17 إبريل/نيسان 2015) بصرفه علاوة لهم قدرها 50 مليار دولار من أرصدة مجمّدة سابقة، عربون محبّة سابق لموعد الاتفاق النهائي لرفع العقوبات ومكافأة على العدد الهائل من الأطفال العرب التي قتلتهم الأخيرة خدمة لأميركا. وستكون هذه الخطوة بمثابة دعم وتشجيع لتحسين أداء الاستعمار الإيراني في مسعاه إلى تدمير ما تبقى من العالم العربي بهمّة أعلى!
وفي إجابة أخرى مثيرة للشفقة حقًّا، يدّعي تشومسكي أنّ "تنظيم الدولة الإسلامية مخلوق متوحش، لكنه ليس أكثر من شركة خارجية، تعمل لحساب السعودية التي تنشر نسخة متطرفة من الإسلام، الإسلام الوهابي. تأتي من الرياض أطنان هائلة من الأموال والأيديولوجية لنشر الأصولية في العالم العربي". لكن، يبدو أن أحداً لم يخبر بعد الدكتور بأنّ "تنظيم الدولة الإسلامية" يعادي صراحة المملكة العربية السعودية التي تشنّ حملة أمنية ضده في بلادها. وأنّ السعودية كانت من أوائل الدول التي شاركت في التحالف، بقيادة الولايات المتحدة، في سورية من أجل الحرب على "داعش". لكن، بعد تدهور العلاقات مع الولايات المتحدة، لم يعد هناك أيّ دولة عربية تشارك في القصف الجوي من ضمن التحالف الدولي ضد "داعش" في العراق. أما في سورية، فقد بقي الأردن وحده مشاركًا فيه، وذلك كله، حسب مقابلة على قناة "فوكس نيوز" على برنامج "تقرير خاص مع بريت باير"، أجريت مع الملك عبد الله الثاني، في 13 إبريل/نيسان 2015.
وألا يصبح قائد الإمبريالية الأميركية، آية الله باراك حسين أوباما، في تحالفه مع الاستعمار الإيراني "بطلا" في عيني تشومسكي، بل في أعين غيره من "اليساريين" المناهضين للإمبرياليّة والليبراليين الأميركيين أمر مفهوم. لكن، أن تكون السياسة الإمبريالية الحالية "الرافعة" التاريخية اللاواعية الضمنيّة لنجاح "النضال ضد الإمبريالية"، كما يفهمه تشومسكي، اليوم، أيّ أن يكون تدميرنا، نحن العرب، من إيران هو نفسه "الانتصار ضدّ الامبرياليّة" حسبه، لهي نهاية ساخرة مناسبة له، وقد أصبح، بسبب جهله ما يحصل من حوله، مغفلًا مفيدًا لأوباما ولعملاء إيران، من حيث لا يدري. إلا أنّ عزاءه أنّه ليس وحده في ذلك. فقد حذفت طائرات التحالف، بقيادة الولايات المتحدة، قرية "بير محلّي" في ريف منبج من الوجود. واستهدفت طائراتها بيوتها الآمنة في مجزرة مروّعة، راح ضحيتها أكثر من 93 شهيدًا، تمّ توثيق أسمائهم، معظمهم من الأطفال والنساء. ادعى الأميركيون، في البداية، أنّ هؤلاء هم "داعش"، ثمّ قالوا إن "داعش انسلّت بين المدنيين"، ليتضح فيما بعد أنّ ميليشيات كرديّة هناك أعطت معلومات استخبارية خاطئة بشكل مقصود، لتقصف القرية، في مسلسل طويل من حملة تطهير عرقي بحق قرى عربيّة (موقع "ماككلاكتيدك"، 2 مايو/أيار2015). وقبل يوم تحديدًا، قام "الائتلاف السوري" بواجبه تجاه راعي البقر الأميركي، وطالب على لسان رئيسه، "بفرض منطقة حظر جوّي"، وهو وهم لن يتحقق طبعًا، عندما التقى وزير الخارجية الأميركي، جون كيري. لكن، بعد يوم من ذلك، فإنّ جثث عائلات بكاملها، مثل عائلة جمعة الشواخ بأفرادها الثلاثة عشر، وعائلة علي الشواخ بأفرادها الخمسة عشر، وعائلة عيد الصليبي بأفرادها العشرة، وعائلة مصطفى المحمد علي بأفرادها التسعة، وغيرهم، تمّ شيّها بصواريخ أوباما. نائمون استشهدوا، ولم يعلموا أنّهم مجرّد "خسائر جانبيّة".
يا للعار.